وذلك أنه طلب منه أولا العلة في خطئه طلب منبه على تماديه، موقظ لإفراطه وتناهيه، لأن المعبود لو كان حيا مميزا، سميعا بصيرا، مقتدرا على الثواب والعقاب، نافعا ضارا، -إلا أنه بعض الخلق- لاستخفّ عقل من أهله للعبادة ووصفه بالربوبية، ولسجل عليه بالغىّ المبين والظلم العظيم وإن كان أشرف الخلق وأعلاهم منزلة، كالملائكة والنبيين. قال الله تعالى:(وَلا يَامُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَامُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: ٨٠]؛ وذلك أن العبادة هي غاية التعظيم، فلا تحق إلا لمن له غاية الإنعام: وهو الخالق الرزاق، المحيي المميت، المثيب المعاقب، الذي منه أصول النعم وفروعها. فإذا وجهت إلى غيره - وتعالى علوا كبيرا أن تكون هذه الصفة لغيره - لم يكن إلا ظلما وعتوا وغيا وكفرا وجحودا، وخروجا عن الصحيح النير إلى الفاسد المظلم، فما ظنك بمن وجه عبادته إلى جماد ليس به حس ولا شعور؟ فلا يسمع -يا عابده- ذكرك له وثناءك عليه، ولا يرى هيئات خضوعك وخشوعك له، فضلا أن يغنى عنك بأن تستدفعه بلاء فيدفعه، أو تسنح لك حاجة فيكفيكها. ثم ثنى بدعوته إلى الحق مترفقا به متلطفا، فلم يسم أباه بالجهل المفرط، ولا نفسه بالعلم الفائق، ولكنه قال: إن معى طائفة من العلم وشيئا منه ليس معك، وذلك علمُ
قوله:(وكفرا وجحوداً)، الراغب: الجحود: نفي ما في القلب ثباته، وإثبات ما في القلب نفيه. قال تعالى:(وجَحَدُوا بِهَا واسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ)[النمل: ١٤].
قوله:(فلا يسمع- يا عابده- ذكرك له) هذا الاعتراض فيه التنبيه على غباوة السامع والتمادي في الغفلة والانغماس في ورطة الجهل، قال الفرزدق:
فانعق بضأنك يا جرير، فإنما … منتك نفسك في الخلاء ضلالا