للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وأغرب صاحب (الجُمَل) حين جعل التسبيح مجازاً عن السير، أي أنها كانت تسير إلى حيث يريد فيكون قد جعل السير تسبيحاً للدلالة على كمال قدرة الله تعالى وحكمته، أوعلى اعتبار أن (يسبحن) من السباحة فيكون المعنى: سيري معه بالنهار كله (١) ، فإن هذا وإن كان له مساعدة من حيث اللفظ في اللغة على اعتبار أن التأويب سير النهار كله، والسّرى سير الليل كله، إلا أن السياق في الآية لايساعده، وأغرق في الإغراب من ذكر أن التسبيح في حق الجبال إنما هو تقديس بلسان الحال! إذ لا اختصاص بتسبيحهن الحالي بالوقتين، وكذا لا اختصاص له حينئذ بكونه معه، كما أن التقييد بالوقتين المذكورين يأباه (٢) .

ونظير ذلك في الغرابة جعْل التسبيح للجبال مجازاً عن الفيئ، فإن هذا المعنى لايسوغ بحال جعله مجازاً عن التسبيح وإن استقام جعله مجازاً عن السجود، وليس هذا الأخير قاصراً على الجبال بل يعمها وغيرها مما يتأتى أن يكون له فيئٌ أو ظلّ، لذا جاء التعبير به في قوله تعالى: (ألم ترأن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب.. الحج/١٨) . يقول أبو العالية فيما نقله عنه الحافظ ابن كثير: "ما في السماء نجم ولا شجر ولا قمر إلا يقع لله ساجداً حين يغيب ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه، وأما الجبال والشجر فسجودهما بفيئِ ظلالهما عن اليمين والشمائل" (٣) .

والحاصل أن السجود للجبال يصح جعله مجازاً عن الفيئ، لأنه لاوجه فيه للاختصاص لكونه واقعاً منها ومن غيرها على كل حال، أما التسبيح الذي خُصّت به مع داوود فله وجه آخر هو ما ذكرناه آنفا واستقر عليه أمرنا.


(١) ينظر ابن كثير ٣/٥٤٣ والرازي ١٣/٢٩٦والآلوسي ٢٣/٢٥٦ مجلد ١٣.
(٢) ينظر الآلوسي ٢٣/٢٥٦ مجلد ١٣.
(٣) ابن كثير ٣/٢١٧.

<<  <   >  >>