فَتَى مُوسَى:" وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ". (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) يُرِيدُ الْبَعْثَ وَكَانُوا يَنْسُبُونَ الْمَوْتَ إِلَى الْأَسْبَابِ، فَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُمِيتُ وَيُحْيِي. وَكُلُّهُ بِغَيْرِ يَاءٍ:" يَهْدِينِ"" يَشْفِينِ" لِأَنَّ الْحَذْفَ فِي رُءُوسِ الْآيِ حَسَنٌ لِتَتَّفِقَ كُلُّهَا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَلَى جلالته ومحله من العربية هذه كلها بِالْيَاءِ، لِأَنَّ الْيَاءَ اسْمٌ وَإِنَّمَا دَخَلَتِ النُّونُ لعلة. فإن قيل: فهذه صفة تجميع الْخَلْقِ فَكَيْفَ جَعَلَهَا إِبْرَاهِيمُ دَلِيلًا عَلَى هِدَايَتِهِ وَلَمْ يَهْتَدِ بِهَا غَيْرُهُ؟ قِيلَ: إِنَّمَا ذَكَرَهَا احْتِجَاجًا عَلَى وُجُوبِ الطَّاعَةِ، لِأَنَّ مَنْ أَنْعَمَ وَجَبَ أَنْ يُطَاعَ وَلَا يُعْصَى لِيَلْتَزِمَ غَيْرُهُ مِنَ الطَّاعَةِ مَا قَدِ الْتَزَمَهَا، وَهَذَا إِلْزَامٌ صَحِيحٌ. قُلْتُ: وَتَجَوَّزَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِشَارَاتِ فِي غَوَامِضِ الْمَعَانِي فَعَدَلَ عَنْ ظَاهِرِ مَا ذَكَرْنَاهُ إِلَى مَا تَدْفَعُهُ بَدَائَةُ الْعُقُولِ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ. فَقَالَ:" وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ" أَيْ يُطْعِمُنِي لَذَّةَ الْإِيمَانِ وَيَسْقِينِ حَلَاوَةَ الْقَبُولِ. وَلَهُمْ فِي قَوْلِهِ:" وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ" وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا- إِذَا مَرِضْتُ بِمُخَالَفَتِهِ شَفَانِي بِرَحْمَتِهِ. الثَّانِي- إِذَا مَرِضْتُ بِمُقَاسَاةِ الْخَلْقِ، شَفَانِي بِمُشَاهَدَةِ الْحَقِّ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ: إِذَا مَرِضْتُ بِالذُّنُوبِ شَفَانِي بِالتَّوْبَةِ. وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ:" وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ" عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فَالَّذِي يُمِيتُنِي بِالْمَعَاصِي يُحْيِينِي بِالطَّاعَاتِ. الثَّانِي: يميتني بالخوف يحييني بِالرَّجَاءِ. الثَّالِثُ: يُمِيتُنِي، بِالطَّمَعِ وَيُحْيِينِي بِالْقَنَاعَةِ. وَقَوْلٌ رَابِعٌ: يُمِيتُنِي بِالْعَدْلِ وَيُحْيِينِي بِالْفَضْلِ. وَقَوْلٌ خَامِسٌ: يُمِيتُنِي بِالْفِرَاقِ وَيُحْيِينِي بِالتَّلَاقِ. وَقَوْلٌ سَادِسٌ: يُمِيتُنِي بِالْجَهْلِ وَيُحْيِينِي بِالْعَقْلِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْهُ مُرَادٌ مِنَ الْآيَةِ، فَإِنَّ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ الْغَامِضَةَ، وَالْأُمُورَ الْبَاطِنَةَ، إِنَّمَا تَكُونُ لِمَنْ حَذَقَ وَعَرَفَ الْحَقَّ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ فِي عَمًى عَنِ الْحَقِّ وَلَا يَعْرِفُ الْحَقَّ فَكَيْفَ تُرْمَزُ لَهُ الْأُمُورُ الْبَاطِنَةُ، وَتُتْرَكُ الْأُمُورُ الظَّاهِرَةُ؟ هَذَا مُحَالٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) " أَطْمَعُ" أَيْ أَرْجُو. وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الْيَقِينِ فِي حَقِّهِ، وَبِمَعْنَى الرَّجَاءِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ سِوَاهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ:" خَطَايَايَ" وَقَالَ: لَيْسَتْ خَطِيئَةً وَاحِدَةً. قَالَ النَّحَّاسُ: خَطِيئَةٌ بمعنى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute