للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وها هنا ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: أنكر جماعة من الفقهاء دخولَ الورع في مسح الشافعي - مَثَلاً- جميع رأسِه، لأنه ان اعتقد الوجوبَ فقد ترك الندبَ، فلم يجمع بين المذهبين، بل هذا مذهبُ مالكٍ فقط، وإن لم يعتقد الوجوب لمْ يُجْزِه المسحُ بنيَّة الندْب، فما حصل الجمعُ، وكذلك المالكي إذا بَسْملَ، وكلُّ موْضع اختلف فيه، فعلى هذا النوع يُوردون فيه السؤال، وليس بوارد، بسبب أنا نقول:

يعتقد في مسح رأسه كله الندب على رأي الشافهي، والوجوبَ على رأي مالك، وليس في ذلك الجمعُ بينَ الضّدَّين، لأن الجهح بين الضدين إنما يمتنع إذا اتحد المتعلَّق مع اتحاد المحلِ، أمّا اتحادُ المحل فقَطْ فلا يمنع الجمعُ، لأن الصداقة ضِدُّ


= وما قاله القرافي فيما إذا اختلفوا في المشروعية وعدمها من أن القائل بها مثْبت لأمْرِ لم يطلع عليه النافي، والمثبتُ مقدَّم، كتعارض البينات، ليس بصحيح على الاطلاق، فإنه إن عَنَى بتعارض البيناتَ كما إذا قالت إحدى البينتيْن: لزيد عند عَمْرو دِينارٌ، وقالت الاخرى: ليس عنده شيء، فلا تعارض، لأن البينة النافية معنى نفيها أنَّها لا تعْلَمُ أن له عنده شيئا، أو ليس عنده شيء، فلا تعارُضَ، وليس معنى نفيها أنها تعلم أنه ليس عنده شيء، فإن ذلك أمر يتعذر العلم به عادة، وان عَنى كما إذا قالت إحدى البينتين: رأيناه يومَ عرفةَ من عام سبعمائة بمكة، وقالت الأخرى: رأيناه في ذلك اليوم بعينه بالمدينة فهذا تعارض، ولا يصح تقديم إحداهما على الأخرى إلا بالترجيح. وهذه الصورة التي تشبه مسألة المجتهدين، لا الصورة الأولى.
فإذا وقع الخلاف في مثل هذا الاجتهاد ثبت الخلاف من غير تقديم لأحد المذهبين على الآخر، إلا عند من رَجَحَ عنده كالمجتهدين، وكلّ من رجح عنده ذلك المذهب لا يسوغ له ترْكُه، وكل من جحَ عنده المذهث الآخَرُ لا يسوغ له تركه، فلا وَرَعَ باعتبار المجتهدين، ولابُدَّ لمن حكمه التقليد أن يحملَ بالتقليد، فإذا قلد أحدَ المجتهدين لا يتمكن له في تلك الحال وفي تلك القضية أن يقلد الآخر، ولا أن ينظر لنفسه، لأنه ليس من أهْل النظر، والمكلَّفون كلهم دائرون بين الاجتهاد والتقليد، والمجتهد ممنوع من الأخذ بغير ما اقتضاه نظره، فلا يصحّ الورع الذي يقتضي خلاف مذهب مقلِده في حد ذاته.
وإذا كان هذا النوع من الورَع لا يصحُّ في حق المجتهدين ولا في حقِّ المقلِّدين فليس بصحيح، لأنه لا ثالث يصح ذلك الورع في حقه، والله تعالى أعلم". انتهى كلام ابن الشاط رحمه الله في هذا التعليق الطويل الهام المتعلق بالورع في مراعاة الخلاف المذهبي الفقهي، واعتبارِه في الأخذ بما هو أحوَطُ، وبتصحيحه وبتبيان وجهة نظره في الموضوع.

<<  <  ج: ص:  >  >>