أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ محمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى ثنا الفضل بن محمد الشعراني ثنا أبو صالح ثنا الليث عن ابن عجلان عن مولى لعمر بن عبد العزيز عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال:"إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربك فإن المنبت لا سفرا قطع ولا ظهرا أبقى، فاعمل عمل امرئ يظن أن لن يموت أبدا، واحذر حذر امرئ يخشى أن يموت غدا".
فعزو المصنف آخر الحديث إليه لا يخفى ما فيه، مع أنه كذلك موهم لا يتضح معناه إلا بإيراده بتمامه، ولذلك وهم الشارح في معناه وقرر ما سمعت وهو خلاف المراد، إذ معنى الحديث ظاهر من أوله وهو الأمر بالرفق في العمل، والاقتصاد في العبادة، وعدم التوغل فيها، والاجتهاد والإكثار الذي قد يؤدي بصاحبه إلى الملل والضجر والترك بالكلية فيكون كالمنبت لا أرضًا قطع ولا ظهر أبقى، بل يعمل بعد أداء الفرائض عمل من يظن أن لن يموت أبدا، فهو في كل وقت يكتسب قليلًا من العمل والقليل في المدة الطويلة كثير هذا في جانب العمل والتحلي به، وأما في جانب الحذر والترك للمعاصي والتباعد منها جملة وتفصيلًا كبيرها وصغيرها فليحذر حذر من يظن أنه يموت غدا، فلم يبق له متسع للتدارك بالمكفرات ولا تسويف بإحضار التوبة، لأن ترك المنهيات آكد في الدين وأصلح للمرء من الإتيان بالمأمورات، كما في مسند عائشة رضي اللَّه عنها أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال:"من أحب أن يسبق الدائب المجتهد فليكف عن الذنوب".
وكما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث الصحيح (١): "إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عنه فانتهوا"، فقيد الأمر بالاستطاعة وأطلق في النهي، لأن المطلوب التباعد من المنهيات جملة وتفصيلًا، فهذا معنى قوله في هذا الحديث:"اعمل عمل امرئ يظن أن لن يموت أبدا واحذر حذر امرئ يخشى أن يموت غدا"، كما هو ظاهر من تمامه وقد شرحه على هذا المعنى غير واحد من
(١) انظر صحيح البخاري (٩/ ١١٧)، ومسلم في: الحج (٤١٢).