واستدل بالحديث لِمَن قال: إنّ الحاكم لا يحكم بعلمه بدليل الحصر في قوله " إنّما أقضي له بما أسمع " وقد تقدّم البحث فيه قبل (١).
وفيه: إنّ التّعمّق في البلاغة بحيث يحصل اقتدار صاحبها على تزيين الباطل في صورة الحقّ وعكسه مذموم، فإنّ المراد بقوله أبلغ. أي: أكثر بلاغةً , ولو كان ذلك في التّوصّل إلى الحقّ لَم يذمّ , وإنّما يذمّ من ذلك ما يتوصّل به إلى الباطل في صورة الحقّ.
فالبلاغة إذن لا تذمّ لذاتها , وإنّما تذمّ بحسب التّعلّق الذي يمدح بسببه وهي في حدّ ذاتها ممدوحة.
وهذا كما يذمّ صاحبها إذا طرأ عليه بسببها الإعجاب، وتحقير غيره ممّن لَم يصل إلى درجته , ولا سيّما إن كان الغير من أهل الصّلاح , فإنّ البلاغة إنّما تذمّ من هذه الحيثيّة بحسب ما ينشأ عنها من الأمور الخارجيّة عنها، ولا فرق في ذلك بين البلاغة وغيرها بل كلّ فتنة توصل إلى المطلوب محمودة في حدّ ذاتها , وقد تذمّ أو تمدح بحسب متعلقها.
واختلف في تعريف البلاغة.
فقيل: أن يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه، وقيل: إيصال المعنى إلى الغير بأحسن لفظ، وقيل: الإيجاز مع الإفهام والتّصرّف من غير إضمار، وقيل: قليل لا يبهم وكثير لا يسأم؛ وقيل: إجمال اللفظ
(١) في شرح حديث عائشة في قصة هند بنت عتبة رضي الله عنها قبل حديث.