للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأنا أقول تبعاً لذلك: إن ضابط تحقُّق ذلك الحد أحدُ خمسةِ أمور.

أولها أن يكون النفع أو الضر مُحَقَّقاً مطَّرِداً. فالنفع المحقق مثل الانتفاع بانتشاق الهواء، وبنور الشمس، والتبرد بماء البحر أو النهر في شدة الحر، مما لا يدخل في الانتفاع به ضرُّ غيره. والضرّ المحقَّق مثل حرق زرع لقصد مجرد إتلافه من دون معرفة صاحبه ولا تشف، وكما حرق (نيْرون) (١) مدينة رومة.

الثاني أن يكون النفعُ أو الضر غالباً واضحاً تنساق إليه عقول العقلاء والحكماء بحيث لا يقاومه ضدُّه عند التأمل. وهذا أكثرُ أنواع المصالح والمفاسد المنظور إليها في التشريع. وهو الذي لاحظه عزّ الدين والشاطبي، مثل إنقاذ الغريق مع ما فيه من مضرة للمنقذ كشدّة التعب أو شدّة البرد أو حدوث مرض، لكنها لا تُعدُّ شيئاً في جانب مصلحة الإنقاذ، وأمثلة هذا كثيرة في معظم المصالح والمفاسد.

الثالث أن لا يمكن الاجتزاء عنه بغيره في تحصيل الصلاح وحصول الفساد، مثل شرب الخمر. فقد اشتمل على ضُرٍّ بيِّن وهو إفساد العقل وإحداث الخصومات وإتلاف المال، واشتمل على نفع بيَّن وهو إثارة الشجاعة والسخاء وطرد الهموم. إلّا أننا وجدنا مضارَّه لا يخلُفُها ما يصلحها، ووجدنا منافعه يَخلُفها ما يقوم مقامها من الحث على الخير بالمواعظ الحسنة والأشعار البليغة.


(١) الأمبراطور الروماني ٣٧ ميلادي، عهد إليه بالأمبراطورية سنة ٥٤ م وبعد سنين من الحكم - لا تتجاوز خمسة أعوام - أثار الحفائظ واشتد ظلمه وطغيانه، وثار عليه الولاة، وقضى منتحراً في ٩ يونيو ٦٨ م.

<<  <  ج: ص:  >  >>