في خطابهم ما قاله سعد، قال لهم:"إنكم جئتم لتكريمي وما أنا من الكبراء ولا من ذوي السلطان، ما أنا إلاّ فلاّح وابن فلاّح". تقرؤون هذه الجملة الآن وقد انطفأ بريقها وهمدَت شعلتها، ولكن الذين سمعوها من الفلاّحين فعلت فيهم فعل السحر ومشت في أعصابهم مَشْي الكهرباء. هذه هي مطابقة الكلام لما تقتضيه الحال، هذي هي «البلاغة».
أعود إلى حافظ في رثاء سعد: وضع السامعين «في الصورة» كما يُقال، أدخلهم المشهد حتى كأنهم فيه، ينتظرون سعداً فلا يرون سعداً، فقال: أين سعد؟ لِمَ لا يحضر وقد كان حاضراً دائماً في صدور المجالس، كما كان حاضراً في القلوب بحبهم له، وحاضراً في الأسماع بإصغائهم إليه:
لم يُعوِّدْ جنودَهُ يومَ خَطبٍ ... أن يُنادى فلا يَرُدَّ الجوابا
ثم راح يتلمّس لغيابه الأسباب: لعلّه قد عاقه عائق؟ فلننتظر. ولكن طال الغياب، أفيكون نائماً لم يسمع؟ أيكون غائباً لم يعلم؟ فاجهروا بالنداء، فإذا لم يُجِب فاعلموا أن المصاب قد حلّ والمحذور قد وقع:
لم يُعوِّدْ جنودَهُ يومَ خَطبٍ ... أن يُنادى فلا يَرُدَّ الجوابا
علَّ أمراً أعاقهُ، علَّ خطباً ... قد عراهُ، لقد أطالَ الغيابا
أيْ جنودَ الرئيسِ نادوا جَهاراً ... فإذا لم يُجِبْ فشُقّوا الجيوبا