وإذا تتبّعنا الطريق الذي سلكه الصفدي في حِجّته وجدناه يمشي مع سكة الحديد، يبتعد عنها حيناً ثم يعود إليها. فقد مشى بعد بصرى إلى «الزرقاء» وقال فيها شعراً. والزرقاء مدينة كبيرة وقد اتصلَت الآن بعَمّان أو كادت، وقد زرتها مرّات لا أحصيها وألقيت فيها محاضرات، في مساجدها ونواديها وفي النادي العسكري الكبير فيها. ثم إلى زيزاء وقال فيها شعراً (وتجدون هذه الأشعار كلها في كتاب «درر الفوائد المنظمة» ص ٤٥٣ وما بعدها)، وزيزاء معروفة بهذا الاسم إلى اليوم ويحرّفه بعض الناس فيقولون «الجيزة». ثم يمضي إلى الكَرَك، والكرك تقوم اليوم على هضبة وإلى جنبها شبه بلدة جديدة، وقد ذهبت إليها مرات وألقيت فيها محاضرات، وللكرك في تاريخ الحروب الصليبية أخبار طوال. ويمضي الصفدي في طريقه يسمّي منازله ويقول فيها هذا الشعر الذي عرفتم نماذج منه، حتى يبلغ معان.
ومعان بفتح الميم، وبعض المحدّثين يضمّها. وفيها تجمّع جيش الروم الذي نازله المسلمون في مؤتة، وكان جيشاً ضخماً يقول المُقِلّون إن فيه مئة وخمسين ألفاً والمكثرون إنه يزيد على مئتَي ألف، وقفَت أمامه فرقةُ استطلاع إسلامية صغيرة مؤلَّفة من ثلاثة آلاف، استُشهد قُوّادها الثلاثة الذين سمّاهم رسول الله عليه الصلاة والسلام بالقيادة. ثم تسلّمها القائد العبقري، أعظم قُوّاد التاريخ العسكري القديم، خالدبن الوليد، فانسحب انسحاباً كان أعظم من النصر، لأنه أنقذ ثلاثة آلاف من بين مئة وخمسين ألفاً أطبقوا عليهم وأحاطوا بهم. وإذا كان الحلفاء يفتخرون بالانسحاب من دَنْكِرك أيام الحرب الثانية فإن انسحاب خالد أعظم بكثير.