للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

معه الأنس ببلدك وأهلك وأصدقائك؟ وما العيد إن لم يكن فيه للنفس متعة وللقلب راحة؟

وذهبت أهيم على وجهي أمشي على غير هدى حتى بلغت ساحة كامبير (أي الاستقلال). وكانت قد نبتت فيها عشرون ألف زهرة ملوّنة في ليلة واحدة، لا أعني زهرات الحقل ولكن زهرات البيوت. كان البنات، بنات جاوة (الحلوات لا الجميلات!) وأطفالهن يختلن في الثياب العجيبة الملوّنة بمثل زهر البستان، وكان لهن أفانين من التسليات والألاعيب. ولكني كنت عن ذلك كله في غفلة، كنت أمشي بلا قلب لأن قلبي بعيد بعيد، بعيد في المكان والزمان؛ إنه يهيم في أودية الماضي ويسرح على تلك السفوح الحبيبة من قاسيون، التي حُرمت الآن منها وأُبعدت عنها، وأخشى أن يحين أجلي قبل أن أعود إليها فأراها.

مشيت حتى بلغت حديقة لحظت أنها مرتع أطفال الأغنياء لِما يبدو عليهم من آثار الترف والسرف. وكان على باب الحديقة عجوز ظهر عليها الكبر (رغم أن نساء جاوة لا يكدن يَشِخْنَ أبداً!)، عجوز أثقل ظهرَها حمل السنين، وفي يدها بنت كأنها الفلة المتفتحة جمالاً وطهراً، في ثياب قديمة لكنها نظيفة. وكانت تنظر إلى هذا العالَم كأنه غريب عنها، وكأن الله خلقها هي وجدّتها من الطين وخلق أولاد الأغنياء هؤلاء من الزبد والحليب. وكانوا يمرّون بها لا يلتفتون إليها ولا يرونها، ولو كانت هرّة صغيرة أو كانت كلباً في البلاد التي تأنس بالكلاب لوجدَت من يمسح شعرها ويبسم لها.

<<  <  ج: ص:  >  >>