وكانت المعركة مشتدّة هذه العشيّة وكان الناس مزدحمين ينظرون، وإذا بجهنّم قد فُتحت أبوابها، وإذا القنابل قد ضلّت طريقها فإذا هي تكاد تساقط على المهاجرين، أجمل أحياء دمشق وأبهاها! فطار الفزع بألباب الناس، وكانت مثل ساعة الهول التي يُستعاذ بالله منها، وصار الناس كحالهم يوم القيامة ... وإن كان هول يوم القيامة لا تُقاس به أهوال الدنيا، يوم يجد المرء ما يشغله عن أخيه وصاحبته وبنيه وأمه وأبيه. فخلّفوا دورهم مفتّحة الأبواب واستلموا منافذ الطرق التي توصلهم إلى الشام (وإذا قلنا «الشام» فإنما نعني المدينة القديمة منها)، يريدون أن يعتصموا بالأموي ويقيموا في جواره، ظناً منهم أن القنابل التي تحمل الموت والدمار لا تعرف الطريق إلى بيوت الله. فلم تكن ترى على الطرق إلاّ الناس مسرعين بوجوه شاحبة وأعضاء من الخوف مضطربة، وربما خرجَت المسلمة المخدَّرة مكشوفة الوجه من الفزع بادية المحاسن، والمدافع تنطلق والقنابل تتوالى وتتعاقب كالغيث إذا انهمر، وكان أمرٌ لا يوصف.
وكنّا نسكن في دار على الشارع العامّ، وقد استعدّ نساؤنا ولبسن ثياب الخروج ولكننا لم نبارح دارنا. وكانت لي عمّة عجوز صالحة لا عمل لها إلاّ قراءة القرآن والدعاء، فقلت لها: هلمّي نخرج. قالت: إلى أين؟ قلت: إلى حيث يذهب الناس، إلى جوار الأموي. قالت:{قُلْ لنْ يُصيبَنا إلاّ ما كتَبَ اللهُ لنا}؛ إن كان مقدَّراً علينا أن نموت مِتنا هنا كما نموت هناك. ولبثَت قاعدة مكانها فقعدنا معها.