للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ح - ألوان التفسير:

إنما نشير تحت هذا العنوان المتجوز إلى ظاهرة واضحة الأثر هي: أن الشخص الَّذي يفسر نصًّا، يلون هذا النص - ولا سيما النص الأدبى - بتفسيره له وفهمه إياه. وإذ أن المتفهم لعبارة هو الَّذي يحدد بشخصيته المستوى الفكرى لها، وهو الَّذي يعين الأفق العقلى، الَّذي يمتد إليه معناها ومرماها، يفعل ذلك كله، وفق مستواه الفكرى وعلى سعة أفقه العقلى .. لأنه لا يستطيع أن يعدو ذلك من شخصيته، ولا تمكنه مجاوزته أبدًا .. فلن يفهم من النص إلا ما يرقى إليه فكره ويمتد إليه عقله وبمقدار هذا يتحكم في النص ويحدد بيانه، فهو في حقيقة الأمر يجر إليه العبارة جرًا، ويشدها شدًا؛ يمطها حينًا إلى الشمال، وحينًا إلى الجنوب؛ وطورًا يجذبها إلى أعلى، وآونة ينزل بها إلى أسفل؛ فيفيض عليها في كل حالة من ذاته، ولا يستخرج منها إلا قدر طاقته الفكرية واستطاعته العقلية؛ وما أكثر ما يكون ذلك واضحًا، حينما تسعف اللغة عليه، وتتسع له ثروتها، من التجوزات والتأولات، فتمد هذه المحاولة المفسرة، بما لديها من ذلك .. بيان المستطاع منه في اللغة العربية لكثير وكثير ...

على هذا الأصل وجدنا آثار شخصية المتصدين لتفسير القرآن، تطبع تفسيرهم له، في كل عهد وعصر، وعلى أي طريقة ومنهج، سواء أكان تفسيرهم له نقليًا مرويًّا، أم كان عقليًا اجتهاديًا .. ولعله لا يبدو هذا الأثر الشخصى واضحًا في التفسير المروى لأول وهلة، ولكنك تتبينه إذا ما قدرت أن المتصدى لهذا التفسير النقلى إنما يجمع حول الآية من المرويات، ما يشعر أنها متجهة إليه، متعلقة به، فيقصد إلى ما تبادر لذهنه من معناها، وتدفعه الفكرة العامة فيها، فيصل بينها وبين ما يروى حولها في اطمئنان ... وبهذا الاطمئنان يتأثر نفسيًا وعقليًا، حينما يقبل مرويًّا ويعنى به؛ أو يرفض من ذلك مرويًّا - إن رفضه - ولم يرتح إليه ... وكذلك راج بين القوم -كما لاحظ ابن خلدون فيما أوردنا من عبارته - ما هم في شوق إليه وتعليق به، من أخبار بدء الخلق، ونشأة الوجود، وتفصيل الأحداث الكبرى في