للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يَعلَمُونَ أنَّ علمَ الكلامِ دَرَجاتٌ وخُطُوات، وأنَّ له مُبتدًى، وله مُنتهًى، وقد يُدرِكُ بعضُ الداخِلِينَ فيه آخِرَه، وبعضُهم يُدرِكُ مِن أوَّلِهِ شيئًا، ويَمنَعُهُ مِن الاسترسالِ فيه بشاعةُ ما يَؤُولُ إليه مِن نفيٍ وتعطيل؛ ولذا يقولُ ابنُ مَهْدِيٍّ: "مَن طلَبَ الكَلَامَ، فآخِرُ أمرِهِ زَنْدَقةٌ" (١).

وكثيرٌ ممَّن وصَلَ إلى نهايتِه، نَدِمَ مِن بدايتِه؛ لأنَّ أصلَ علمِ الكلامِ يُبنَى على القياسِ، واللهُ تعالى لا مَثِيلَ له يُشابِهُه.

* الاسترسالُ في علمِ الكلامِ وأثُره:

والحقُّ: أنْ تُؤخَذَ مسائلُ الصفاتِ والغيبيَّاتِ على ظاهِرِها الذي يليقُ باللهِ وحدَهُ، ويُترَكَ ما سواه، وكثيرٌ مِن الأئمَّةِ خاض وسبَحَ ذهنُهُ في بحورِ الخيالِ، وانتهى إلى التسليمِ بالفِطْرةِ، وأخذِ النصِّ على ظاهرِهِ اللائقِ بالخالقِ لا بالمخلوقِ، والإمساكِ عن غيرِه؛ وهذا لا يَحتاجُ إلى كبيرِ عقل؛ فالدِّينُ لم يُنزِلْهُ اللهُ للأذكياءْ بل أنزلَهُ اللهُ للأَسْوِيَاءْ؛ فكلُّ مكلَّفٍ قادِرٌ على تكميلِ معتقَدِهِ بما يَرِدُ عليه مِن النصوص.

وقد قال هذا وأقَرَّ به أئمَّةُ أهلِ الكلامِ في نهايةِ طَوَافِهم في المعقولاتِ الكلاميَّة؛ كما قال المتكلِّمُ الوليدُ بن أَبَانَ الكَرَابيسيُّ لما حضَرَتْهُ الوفاةُ لبنيه: "هل تَعلَمُونَ أحدًا أعلَمَ بالكلامِ منِّي؟ قالوا: لا، قال: فتَتَّهِمُوني؟ قالوا: لا، قال: فإنِّي أُوصِيكُم بما عليه أصحابُ الحديثِ؛ فإنِّي رأيتُ الحقِّ معهم" (٢)، وقال أبو المَعَالِي الجُوَيْنيُّ: "أموتُ على ما يموتُ عليه عجائزُ نَيْسَابُور" (٣)، ويقولُ أبو الوفاءِ بنُ


(١) "أحاديث في ذم الكلام" (ص ٩٧ - ٩٨).
(٢) "الحجة في بيان المحجة" (١/ ٢٢٥ - ٢٢٦).
(٣) "طبقات الشافعية الكبرى" (٥/ ١٩١).

<<  <   >  >>