للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والمعتزِلةُ والجهميَّة؛ لأنها هي التي ظهَرَتْ في زَمَنِه، ولكنَّ قولَ مالكٍ ونهيَهُ عن علمِ الكلامِ لا يُحصَرُ فيها؛ لأنَّ دخولَ بعضِ أهلِ السُّنَّةِ في علمِ الكلامِ -مع نُدْرَتِهِ- كان في طَبَقةِ شيوخِ مالكٍ وتلامذَتِهم، وكان مالكٌ يَعلَمُ أنه في بعضِ شيوخِهِ وبعضِ تلاميذِه، وكان يَحمَدُ ردَّهم على أهلِ البِدَعِ به، وسلامةَ معتقَدِهِم منه، ويحذِّرُهم مِن الخوضِ فيه بلا علمٍ مِن الأثَر، ولا تمكُّنٍ منه؛ حيث يُفحَمُونَ لِجَهْلِهم به، فيَغتَرُّ المُبطِلُ بباطِلِه لِجَهْلِهم؛ كما حذَّر مالكٌ تلميذَهُ ابنَ فَرُّوخٍ مِن ذلك (١).

وقد اتخذَتْهُ تلك الطَّبَقةُ لإبطالِ باطلِ المُبطِلِين، لا لإحقاقِ حَقِّ المؤمنين، وظهورُهُ على هذا النحوِ في شيوخِ مالكٍ في ابنِ هُرْمُزٍ عبد اللهِ بنِ يزيدَ المَدَنيِّ، وقد قال مالكٌ: "كان ابنُ هُرْمُزٍ رجلًا كنتُ أُحِبُّ أن أَقتدِيَ به، وكان قليلَ الكلامِ، قليلَ الفتيا، شديدَ التحفُّظ، وكان كثيرًا ما يُفتِي الرجلَ، ثُمَّ يَبعَثُ في أثَرِهِ، فيَرُدُّهُ إليه حتى يُخبِرَهُ بغيرِ ما أفتاه؛ قال: وكان بصيرًا بالكلام، وكان يَرُدُّ على أهلِ الأهواءِ؛ قال: وكان مِن أعلَمِ الناسِ بما اختَلَفَ الناسُ فيه مِن هذه الأهواءِ! " (٢).

وظهورُهُ في تلامذةِ مالكٍ على هذا النحوِ أيضًا: في عبد اللهِ بنِ فَرُّوخٍ القيروانيِّ، وقد كتَبَ إلى مالكٍ مِن المغربِ يُخبِرُهُ أنَّ بلدَهُ كثيرُ البدعِ، وأنه ألَّف لهم كتبًا في الرَّدِّ عليهم؛ فكتَبَ إليه مالكٌ يقولُ: "إنْ ظَنَنْتَ ذلك بنَفْسِك، خِفْتُ أنْ تَزِلَّ فتَهْلِكَ؛ لا يَرُدُّ عليهم إلا مَن كان ضابِطًا عارِفًا بما يقولُ لهم، لا يَقدِرُونَ أنْ يُعرِّجُوا عليه؛ فهذا لا بأسَ به، وأمَّا غيرُ ذلك، فإنِّي أخافُ أنْ يُكلِّمَهم فيُخطِئَ؛ فيَمْضُوا على خَطَئِه، أو يَظفَرُوا منه بشيءٍ؛ فيَطْغَوْا ويزدادوا تماديًا على ذلك"؛ كما نقَلَهُ أبو العرَبِ في "طَبَقاته".


(١) "رياض النفوس" (١/ ١٧٧).
(٢) "تبيين كذب المفتري" (ص ٣٥٢).

<<  <   >  >>