من اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حتَّى يَعْرِفَ الإنسانُ أَنَّه محتاجٌ إلى سَتْرِ العورةِ المعنويَّةِ كما احتاجَ إلى سَتْرِ العورةِ الحسِّيَّةِ، وإلى هذا يشيرُ قولُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:{يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ}[الأعرافِ: ٢٦]، اللِّباسَ العاديَّ {وَرِيشًا}[الأعرافِ: ٢٦]، اللِّباسَ الجميلَ الَّذي يَتَزَيَّنُ به المرءُ، ثم قال:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}[الأعرافِ: ٢٦]، لباسُ التَّقْوى هذا اللِّباسُ معنويٌّ، وقيل: إنَّ الآدميَّ سُمِّيَ بَشَرًا؛ لظهورِ أَثَرِ ما في قَلْبِه على بَشَرَتِه، إذا غَضِبَ الإنسانُ يَظْهَرُ أثرُ الغضبِ على بَشَرَتِه يَحْمَرُّ وَجْهُه وعيناه، وتَنْتَفِخُ أوداجُه ويقفُ شَعْرُه، وإذا بُشِّرَ بما يَسُرُّه يَتَهَلَّلُ وَجْهُه وتَجِدُ فيه البُشْرى، والظَّاهرُ - واللهُ أعلمُ - أنَّ المعنى الأوَّلَ أقوى، أنَّه سُمِّيَ بشرًا لظهورِ بَشَرَتِه إلَّا بساتِرٍ.
قال المفسِّرُ رَحِمَهُ اللهُ: [{أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} إلَّا أن يُوحِيَ إليه وحيًا في المنامِ أو بإلهامٍ] هذا واحدٌ {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}؛ يعني: يُكَلِّمُه مباشَرَةً غَيْرَ الوحْيِ الَّذي في القلبِ من وراءِ حجابٍ كما حَصَلَ لموسى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وحَصَلَ لمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ليلةَ المعراجِ، فإنَّ اللهَ كَلَّمَه من وراءِ حجابٍ، فما هو الحجابُ الَّذي يَحْتَجِبُ اللهُ به؟
قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّمَ:"حجابُهُ النُّورُ لو كَشَفَه لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِه ما انتهى إليه بَصَرُه مِن خَلْقِه"(١)، هذا النُّورُ نورٌ عظيمٌ جدًّا لا يَتَصَوَّرُه أحدٌ، هذا هو الَّذي احْتَجَبَ اللهُ به عن الخَلْقِ - تعالى اللهُ - فإذا كان هذا النُّورُ من قُوَّتِه يُحْجَبُ فما بالُكَ بنورِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ هو أَعْظمُ وأَعْظمُ، قال اللهُ تعالى:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[النُّورِ: ٣٥] ولا يَتَصَوَّرُ أحدٌ ذلك أبدًا، وإنَّما يُكَلِّمُ اللهُ تعالى
(١) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لا ينام"، رقم (١٧٩)، من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -.