(٢) خلاصة ذلك:" قوله: {مِن بَعْدِ} فيه وجهانِ، أحدُهما: أنه متعلِّقٌ بـ {اخْتَلَفَ} الملفوظِ به، قاله أبو البقاء. [ينظر: التبيان (١/ ١٧١).]وهذا الذي أجازه أبو البقاء للنحاةِ فيه كلامٌ كثيرٌ. وملخَّصُه: أن (إلا) لا يُسْتَثْنَى بها شيئان دونَ عطفٍ أو بدليةٍ، وهذا هو الصحيحُ، وإنْ كان بعضُهم خالَفَ ذلك.[ولمعرفة آراء النحاة في ذلك ينظر: شرح التسهيل لابن مالك (٢/ ٢٩٢)، همع الهوامع (٢/ ٢٦٢)، حاشية الصبان على شرح الأشموني (٢/ ٢٢٣).]فإن وَرَدَ من لسانِهم ما يُوهم جوازَ ذلك يُؤَوَّل. فمنه قولُه تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ} [النحل: ٤٣]، ثم قال: {بِالْبَيِّنَاتِ}، فظاهر هذا أن {بِالْبَيِّنَاتِ} متعلقٌ {أَرْسَلْنَا}، فقد استُثْنِيَ بـ (إلا) شيئان، أحدُهما: {رِجَالًا}، والآخرُ: {بِالْبَيِّنَاتِ}. وتأويلُه: أنَّ {بِالْبَيِّنَاتِ} متعلِّقٌ بمحذوفٍ تقديره: أَرْسَلْنَاهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ؛ لئلا يلزَمَ منه ذلك المحذورُ." الدر المصون (٢/ ٣٧٧) بتصرف.الوجه الثاني في قوله: {مِن بَعْدِ}:" أن يَتَعَلَّقُ بِعَامِلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، هذا العامل هو الذي يَنْتَصِبُ به: {بَغْيًا}، وَتَقْدِيرُهُ: اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ." البحر المحيط (٢/ ٣٦٨) بتصرف.وهذا الوجه الثاني هو الذي صححه الإمام أبو حيان والإمام السمين الحلبي. ينظر: المراجع السابقة.وقد كان لصاحب التحرير والتنوير رأي مختلف تماما عن كل ذلك، حيث قال: " وَاعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّقَ كُلٍّ مِنَ الْمَجْرُورِ وَهُوَ: {مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ}، وَتَعَلُّقَ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ وَهُوَ: {بَغْيًا}، بِقَوْلِهِ: {اخْتَلَفَ} الَّذِي هُوَ مَحْصُورٌ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ، وَيَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ كِلَاهُمَا مَحْصُورًا فِي فَاعِلِ الْفِعْلِ الَّذِي تَعَلَّقَا بِهِ، فَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي ذَكَرَهُ الرَّضِيُّ بَيْنَ النُّحَاةِ: فِي جَوَازِ اسْتِثْنَاءِ شَيْئَيْنِ بَعْدَ أَدَاةِ اسْتِثْنَاءٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ مَا هُنَا لَيْسَ اسْتِثْنَاءَ أَشْيَاءَ، بَلِ اسْتِثْنَاءُ شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُو: {الَّذِينَ أُوتُوهُ}، لَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِقَيْدَيْنِ هُمَا: {مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ} و {بَغْيًا}، إِذِ الْمَقْصُودُ: بيان أَنَّ الْخِلَافَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ أَهْلِ الدِّينِ وَمُعَانِدِيهِ، وَلَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ الدِّينِ قَبْلَ ظُهُورِ الدَّلَائِلِ الصَّارِفَةِ عَنِ الْخِلَافِ، وَلَا كَانَ ذَلِكَ الْخِلَافُ عَنْ مَقْصِدٍ حَسَنٍ: بَلْ كَانَ بَيْنَ أَهْلِ الدِّينِ الْوَاحِدِ، مَعَ قِيَامِ الدَّلَائِلِ، وَبِدَافِعِ الْبَغْيِ وَالْحَسَدِ." التحرير والتنوير (٢/ ٣١٠ - ٣١١).(٣) مخطوط حاشية السيالكوتي على البيضاوي لوحة (٣٤٣ / ب).(٤) تفسير البيضاوي (١/ ١٣٥). وينظر: تفسير الراغب (١/ ٤٤١).(٥) حاشية الشهاب على البيضاوي (٢/ ٢٩٨).وينظر: معالم التنزيل (١/ ٢٧٢)، مفاتيح الغيب (٦/ ٣٧٦).
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute