للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأول: الظلم والخروج عن النَّصَفَة والحدّ، يقال: بَغَى الفرس في عدوه، إذا اختال ومرح، وبَغَتِ السماء، إذا كثر مطرها حتى تجاوز الحدّ.

والثاني: أن أصله: الطلب (١)، يقال: بغى الشيءَ، إذا طلبه، وأَبْغَاه، أعانه على الطلب. والبَغيّ: التي تطلب الزنا، ومنه قيل للأمة: بَغِيٌّ. وما ينبغي كذا، أي: ليس بصواب طلبه، والبَغْيُ: شدة الطلَب للتطاول.

قال الراغب: (البغى): هو التجاوز في الطلب. يقال: بَغَيْتُ الشيء: إذا طلبت أكثر ما يجب، وابْتَغَيْتُ كذلك، قال الله عزّ وجل: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ} [التوبة: ٤٨]، وقال تعالى: {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة: ٤٧]. فإذا كان طلبا في الحق فمحمود، وإن كان طلبا للباطل فمذموم كما قال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: ٤٢]، فخصّ العقوبة ببغيه بغير الحق" (٢).

واختلف في انتصاب قوله {بَغْيًا} [البقرة: ٩٠]، على وجهين:

الأول: أنه منصوب على المصدر؛ لأن ما قبله من الكلام يدلّ على بَغَوا، فكأنه قيل: بَغَوا بغيًا (٣).

والثاني: أنه انتصب؛ لأنه مفعول له، كما تقول: فعلت ذلك حِذارَ الشرّ، أي: لحذر الشر. قاله الزجاج (٤)، ومنه قول حاتم (٥) (٦):

وأغفر عَورَاءَ الكريم ادّخارَه ... وأُعْرِضُ عن شَتْم اللئيم تَكَرُّما

المعنى: لادخاره، وللتَّكرّم (٧).

قوله تعالى: {فَبَآءُو بِغَضَبٍ على غَضَبٍ} [البقرة: ٩٠]، " أي رجعوا بغضب من الله زيادة على سابق غضبه عليهم" (٨).

قال سعيد بن جبير: " {فباؤ بغضب على غضب}، يقول: استوجبوا" (٩).

قال الآلوسي: " أي فرجعوا متلبسين بِغَضَبٍ كائن عَلى غَضَبٍ مستحقين له حسبما اقترفوا من الكفر والحسد" (١٠).

قال الزجاج: "معنى {باءُوا} في اللغة احتملوا، يقال قد بْؤت بهذا الذنْبِ أيَ تحملته" (١١).

واختلف في تفسير قوله تعالى: {فَبَآءُو بِغَضَبٍ على غَضَبٍ} [البقرة: ٩٠]، على ثلاثة أوجه (١٢):

أحدها: أن الغضب الأوّل: بكفرهم بعيسى عليه السّلام والإنجيل، والثاني: كفرهم بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن. قاله أبو العالية (١٣)، وروي عن عكرمة (١٤) وقتادة (١٥) والشعبي (١٦)، ومجاهد (١٧)، وعبيد بن عمير (١٨)، نحو ذلك.


(١) انظر: مقاييس اللفة (بغي): ص ١/ ٢٧٢.
(٢) المفردات في غريب القرآن، للراغب: ٦٥.
(٣) انظر: التبيان للعكبري: ٧٥.
(٤) انظر: معاني القرآن للزجاج: ١/ ١٧٣.
(٥) هو: حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج الطائي القحطاني، فارس شاعر جواد، جاهلي يضرب المثل بجوده، كان من أهل نجد، شعره كثير ضاع معظمه. ينظر: "الشعر والشعراء" ص ١٤٣، و"الأعلام" ٢/ ١٥١.
(٦) "ديوانه" (ن: دار مكتبة الهلال): ٧٢، وورد منسوبًا له، في "كتاب سيبويه" ١/ ٣٦٨، "الإفصاح" ٢٧٩، "شرح المفصل" ٢/ ٥٤، "اللسان" ٥/ ٣١٦٥ (عور)، "التصريح بمضمون التوضيح" للأزهري: ١/ ٣٩٢، "شرح شواهد المغنى" ٢/ ٩٥٢، "الخزانة" ٣/ ١١٥، ١٢٢. "الجمل" للخليل: ٩٥، "معاني القرآن" للفرَّاء: ٢/ ٥، "معاني القرآن" للأخفش: ١/ ١٦٧، "الكامل" ١/ ٢٩١، "المقتضب" ٢/ ٣٤٨، "المحلى" (وجوه النصب)، لابن شقير: ٦٩، "وأسرار العربية" للأنباري: ١٨٧، "الاقتضاب" ١٠٩.
وورد في بعض المصادر بالروايات التالية: ( .. اصطناعه وأعرض عن ذات .. ) و ( .. اصطناعه وأصفح عن ذات .. ) و ( .. وأصفح عن شتم .. ). ومعنى (أغفر): استُر. و (العَوْراء): الكلمة، أو الفعلة القبيحة، و (الادِّخار)، افتعال من (الذُّخر)، بمعنى: الاتخاذ والحفظ، وأصلها: (اذتخار)، فقلبت التاء ذالًا، وأدْغِمَت فيها الذالُ الأصليةُ، فصارت ذالًا مشدوةً، ثم أبدِلَت الذالُ دالًا. انظر: "اللسان" ٣/ ١٤٩٠ (ذخر)، ٥/ ٣١٦٥ (عور)، ٦/ ٣٢٧٤ (غفر). ومعنى البيت: إذا جهل علي الكريمُ بكلمة أو فعلةٍ قبيحة، سترتها عليه، وسامحته، واحتملتها منه؛ للإبقاء على صداقته، ولادِّخاره ليوم احتاج إليه فيه. وإن شتمني اللئيمُ أعرضت عن شتمه والرد عليه؛ إكرامًا لنفسي.
(٧) انظر: معاني القرآن للزجاج: ١/ ١٧٣. ونقله الواحدي في التفسير البسيط: ٣/ ١٥١ - ١٥٢.
(٨) صفوة التفاسير: ١/ ٦٨.
(٩) أخرجه ابن أبي حاتم (٩١٣): ص ١/ ١٧٣.
(١٠) روح المعاني: ١/ ٣٢٢.
(١١) معاني القرآن: ١/ ١٧٤.
(١٢) انظر: تفسير الطبري: ٢/ ٣٤٥ - ٣٤٨، وتفسير ابن كثير: ١/ ٣٢٧، وتفسير روح المعاني: ١/ ٣٢٣.
(١٣) أخرجه ابن أبي حاتم (٩١٤): ص ١/ ١٧٣، وتفسير الطبري (١٥٥٣): ص ٢/ ٣٤٦.
(١٤) انظر: تفسير الطبري (١٥٤٧)، و (١٥٤٨): ص ٢/ ٣٤٥ - ٣٤٨.
(١٥) انظر: تفسير الطبري (١٥٥١): ص ٢/ ٣٤٦.
(١٦) انظر: تفسير الطبري (١٥٥٠): ص ٢/ ٣٤٦.
(١٧) انظر: تفسير الطبري (١٥٥٢): ص ٢/ ٣٤٦.
(١٨) انظر: تفسير الطبري (١٥٥٥): ص ٢/ ٣٤٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>