للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا، ومن ذلك: قوله: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [سورة المائدة: ٨٠].

والعرب تجعل (ما) وحدها في هذا الباب، بمنزلة الاسم التام، كقوله: {فنعما هي} [البقرة: ٢٧١]، و (بئسما أنت)، واستشهد لقوله ذلك برجز بعض الشاعر (١):

لا تعجلا في السير وادْلُوها ... لبئسما بطءٌ ولا نرعاها

قال الإمام الطبري: "وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من جعل (بئسما) مرفوعا بالراجع من (الهاء) في قوله: {اشتروا به}، كما رفعوا ذلك بـ (عبد الله) إذ قالوا: (بئسما عبد الله)، وجعل (أن يكفروا) مترجمة عن (بئسما)، فيكون معنى الكلام حينئذ: بئس الشيء باع اليهود به أنفسهم، كفرهم بما أنزل الله بغيا وحسدا أن ينزل الله من فضله. وتكون (أن) التي في قوله: {أن ينزل الله}، في موضع نصب. لأنه يعني به {أن يكفروا بما أنزل الله}: من أجل أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، موضع (أن) جزاء، وكان بعض أهل العربية من الكوفيين يزعم أن (أن) في موضع خفض بنية (الباء)، وإنما اخترنا فيها النصب لتمام الخبر قبلها، ولا خافض معها يخفضها. والحرف الخافض لا يخفض مضمرا" (٢).

قوله تعالى: {بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [البقرة: ٩٠]، " أي حسداً منهم لأجل أن ينزل الله وحياً من فضله على من يشاء ويصطفيه من خلقه" (٣).

قال الزجاج: " معناه أنهم كفروا بغياً وعداوة للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهم لمْ يُشكَّوا في نبوته - صلى الله عليه وسلم - وإنما حَسَدوه على ما أعطاه الله من الفضل" (٤).

قال ابن عطية: " {مِنْ فَضْلِهِ}، يعني من النبوة والرسالة" (٥).

ويحتمل قوله تعالى: {ومَنْ يَشاءُ} [البقرة: ٩٠]، وجهان (٦):

الأول: يعني به محمدا -صلى الله عليه وسلم-، لأنهم حسدوه لما لم يكن منهم وكان من العرب.

والثاني: ويدخل في المعنى: عيسى -عليه السلام- لأنهم قد كفروا به بغيا، والله قد تفضل عليه.

نستنتج بأن كفر اليهود، لم يكن شكًا ولا شيئًا اشتبه عليهم، وإنما كان ذلك سبب حسدهم: "أن الله جعل النبوة في غيرهم". قاله ابن عباس (٧).

وقرأ أبو عمرو وابن كثير {أن ينزل}، بالتخفيف في النون والزاي (٨).

والبغي: "الحسد". قاله أبو العالية" (٩). وعليه جمهور المفسرين (١٠).

قال اللحياني (١١): "بغيت على أخيك بغيًا، أي: حسدته، وقال الله تعالى: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج: ٦٠]، وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: ٣٩] فالبغي أصله الحَسَد، ثم سمي الظلم بغيًا؛ لأن الحاسِد يظلم المحسودَ جَهْدَه إرادة زوال نعمة الله عليه عنه" (١٢).

واختلف في أَصْل (البغي) على قولين (١٣):


(١) لم أعرف قائله، والبيتان في اللسان (دلو). دلوت الناقة دلوا: سقتها سوقا رفيقا رويدا ورعى الماشية وأرعاها: أطلقها في المرعى.
(٢) تفسير الطبري: ٢/ ٣٤٠.
(٣) صفوة التفاسير: ١/ ٦٨.
(٤) معاني القرآن: ١/ ١٧٣.
(٥) المحرر الوجيز: ١/ ١٧٩.
(٦) انظر: المحرر الوجيز: ١/ ١٧٩.
(٧) أخرجه ابن أبي حاتم (٩١٢): ص ١/ ١٧٣.
(٨) انظر: المحرر الوجي: ١/ ١٧٩.
(٩) أخرجه ابن أبي حاتم (٩١١): ص ١/ ١٧٣.
(١٠) انظر: معاني القرآن" للزجاج ١/ ١٧٣، "زاد المسير" ١/ ١١٤، "تفسير القرطبي" ٢/ ٢٥.
(١١) هو علي بن حازم اللحياني، لغوي معروف، عاصر الفراء وتصدر في أيامه. انظر ترجمته في "طبقات النحويين واللغويين" ص ١٩٥، "إنباه الرواة" ٢/ ٢٥٥، "معجم الأدباء" ١٤/ ١٠٦.
(١٢) تهذيب اللغة: ١/ ٣٦٧، وانظر: التفسير البسيط: ٣/ ١٥١.
(١٣) انظر في معاني البغي: تهذيب اللغة" ١/ ٣٦٧، "مقاييس اللغة" ١/ ٢٧١ - ٢٧٢، "المفردات" للراغب ص ٦٥، "اللسان" ١/ ٣٢٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>