للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الزمخشري: أي" فإيمانا قليلا يؤمنون" (١).

وقد اختلفوا في معنى قوله: {فَقَلِيلا مَّا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: ٨٨]، على ثلاثة أقوال (٢):

الأول: معنها: فقليل من يؤمن منهم، وهذا قول قتادة (٣)، لأن مَن آمن من أهل الشرك أكثر ممن آمن مِنْ أهل الكتاب، واختاره الامام الطبري (٤) وفخر الدين الرازي (٥).

والثاني: معناه فلا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم، ويكفرون بأكثره، قاله أبو عبيدة (٦)، بمعنى أنهم يؤمنون بما جاءهم به موسى من أمر المعاد والثواب والعقاب، ولكنه إيمان لا ينفعهم، لأنه مغمور بما كفروا به من الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم.

والثالث: أن {ما}، تفيد النفي، والمعنى: "لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا، وهذا كقول الرّجل لآخر: ما قل ما تفعل وكذا يريد لا تفعله البتة" (٧). قاله الواقدي، وأجازه المخشري (٨)، واعترض عليه أبو حيان (٩).

وقد روى الفراء عن الكسائي: "مررنا بأرض قلّ ما ينبت الكراث والبصل، يريدون لا ينبت شيئا" (١٠).

والمعنى إنهم كانوا غير مؤمنين بشيء، وإنما قال: {فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ} وهم بالجميع كافرون (١١).

والراجح هو القول الأول، وذلك لعلتين (١٢):

أحدهما: لأنه نظير قوله: {بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا} [النساء: ١٥٥].

والثاني: ولأن الجملة الأولى إذا كان المصرح فيها ذكر القوم فيجب أن يتناول الاستثناء بعض هؤلاء القوم. والله أعلم (١٣).

واختلف أهل العربية في معنى {ما} التي في قوله: {فَقَلِيلا مَّا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: ٨٨]، على ثلاثة أوجه (١٤):

الأول: أنها زائدة لا معنى لها، وهذا قول الأخفش (١٥)، والمعنى: فقليلا يؤمنون، كما قال جل ذكره: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: ١٥٩]، والمعنى: فبرحمة من الله لنت لهم، وأنشدوا بيت مهلهل (١٦):


(١) انظر: الكشاف: ١/ ١٦٤.
(٢) انظر: تفسير ابن كثير: ١/ ٣٢٥، وانظر: تفسير الطبري: ٢/ ٣٢٨.
(٣) انظر: تفسير الطبري (١٥١٤): ص ٢/ ٣٢٩، وابن أبي حاتم (٩٠٠): ص ١/ ١٧١.
(٤) انظر: تفسير ابن كثير: ١/ ٣٢٥، وانظر: تفسير الطبري: ٢/ ٣٢٨.
(٥) انظر: مفاتيح الغيب: ٣/ ٥٩٨.
(٦) انظر: تفسير الثعلبي: ١/ ٢٣٤، والبحر المحيط" ١/ ٣٠٢.
(٧) تفسير الثعلبي: ١/ ٢٣٤.
(٨) انظر: الكشاف: ١/ ١٦٤.
(٩) انظر: البحر المحيط: ١/ ٢٩٦. قال أبو حيان: " وما ذهبوا إليه من أن قليلاً يراد به النفي صحيح، لكن في غير هذا التركيب، أعني قوله تعالى: {فَقَلِيلا مَّا يُؤْمِنُونَ}، لأن قليلاً انتصب بالفعل المثبت، فصار نظير: قمت قليلاً، أي قياماً قليلاً".
(١٠) نقله عنه الثعلبي: ١/ ٢٣٤، وانظر: تفسير ابن كثير: ١/ ٣٢٥، وتفسير القرطبي" ٢/ ٢٣، و"البحر المحيط" ١/ ٣٠٢.
(١١) انظر: تفسير ابن كثير: ١/ ٣٢٥.
(١٢) انظر: مفاتيح الغيب: ٣/ ٥٩٨.
(١٣) وذكر ابن الأنباري في هذه الآية ثلاثة أوجه سوى ما ذكرنا:
أحدها: فيؤمنون إيمانًا قليلًا، وذلك أنهم يؤمنون بأن الله خالقهم ورازقهم، ويكفرون بمحمد والقرآن، فيقلل ذلك إيمانهم، ودليل هذا التأويل: قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: ١٠٦]، معناه: أنهم يعترفون بأن الله ربهم، ويكفرون بمحمد فيقلّ إيمانهم. وانتصب قليلًا على هذا الوجه لأنه نعتُ مصدرٍ محذوف.
الوجه الثاني: أن يكون المعنى: فيؤمنون قليلًا من الزَمَانِ ويكفرون أكثره، ودليل هذا التأويل: قوله: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: ٧٢]. فخّبر الله تعالى بقلة إيمانهم على معنى الوقت القصير الذي أظهروا فيه موافقة المسلمين ثم باينوهم بعده، وانتصب (قليلًا) في هذا الوجه؛ لأنه أقيم مقام الظرف، و (ما) في هذين الوجهين صلة.
الوجه الثالث: أن يكون (ما) مع الفعل مصدرًا، ويرتفع بـ "قليل"، وهو مقدم، ومعناه: فقليلًا إيمانهم، كما قالوا: راكبًا لقَائِيك ومُجَرَّدًا ضَرْبِيكَ. [انظر: التفسير البسيط: ٣/ ١٣٨].
(١٤) انظر: تفسير الطبري: ٢/ ٣٣٠ - ٣٣١.
(١٥) انظر: معاني القرآن للأخفش: ١/ ١٤٢.
(١٦) الكامل ٢: ٦٨، ومعجم ما استعجم: ٩٦، وشرح شواهد المغني: ٢٤٧ وغيرها قال أبو العباس: " أبان جبل: وهما أبانان: أبان الأسود، وأبان الأبيض قال مهلهل، وكان نزل في آخر حربهم - حرب البسوس - في جنب بن عمرو بن علة بن جلد بن مالك، وهو مذحج، وجنب حي من أحيائهم وضيع، وخطبت ابنته ومهرت أدما فزوجها وقال قبله:
أنكحها فقدها الأراقم في ... جنب وكان الحباء من أدم

<<  <  ج: ص:  >  >>