للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذَعَرْتُ به القَطَا وَنَفَيتُ عنه ... مقام الذئبِ كالرجُلِ اللعينِ

والثاني: التعذيب، قال الليث: "ولعنه الله، أي: عذبه، واللعنة في القرآن: العذاب، واللعن: السب والشتم" (١).

والثالث: الخزي، قال شمر: أقرأنا ابن الأعرابي لعنترة (٢):

لُعِنَتْ بمحرومِ الشَّرابِ مُصَرّم

وفسّره، فقال: سُبَّت بذلك، أي: قيل: أخزاها الله فما لها در ولا لبن (٣).

والرابع: المسخ، قاله الفراء (٤). قال لله تعالى: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} [النساء: ٤٧] أي: نمسخهم (٥).

قلت: وكل هذه الأقوال ضمن معنى الطرد والإبعاد. والله أعلم.

وقوله: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ}، تسجيل عليهم وفضح لهم بأنهم صمموا على الكفر والتمسك بدينهم من غير التفاتٍ لحجة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما صمموا على ذلك عاقبهم الله باللعن والإبعاد عن الرحمة والخير فحرمهم التوفيق والتبصر في دلائل صدق الرسول، فاللعنة حصلت لهم عقابا على التصميم على الكفر وعلى الإعراض عن الحق (٦).

وفي ذلك رد لما أوهموه من أن قلوبهم خُلقت بعيدة عن الفهم لأن الله خلقهم كسائر العقلاء مستطيعين لإدراك الحق لو توجهوا إليه بالنظر وترك المكابرة. وهذا معتقد أهل الحق من المؤمنين عدا الجبرية. (٧)

وإن أعظم الذنوب ما تكون عقوبة الله تعالى عليها الإلزام بذنوب أشد منها، فأعقب استكبار اليهود على الأنبياء وتكذيبهم وقتلهم أن الله لعنهم وطبع على قلوبهم، فلا يفقهون الحق ولا يقبلونه (٨).

ويقول علماء السلف: إن من بركة الحسنة وعلامة قبولها الحسنةُ تتبعها. وإن من شؤم المعصية وعقابها المعصية تتبعها.

قوله تعالى: {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: ٨٨]، "أي فقليلٌ من يؤمن منهم (٩).

قال الواحدي: أي" فما يؤمنون قليلًا ولا كثيرًا" (١٠).


(١) انظر: تهذيب اللغة: ٢/ ٣٩٦، واللسان: ١٣/ ٣٨٨، وتفسير القرطبي: ٢/ ٢٥.
(٢) والبيت من معلقة عنترة بن شداد التي مطلعها:
هل غادر الشعراء من متردم
(٣) انظر: تهذيب اللغة: ٤/ ٣٢٧٤، ونقله في "لسان العرب" ٧/ ٤٠٤٥ وفيه: ولا بها لبن، وانظر: التفسير البسيط: ٣/ ١٣٦.
(٤) نقله عنه الواحدي في التفسير البسيط: ٣/ ١٣٦، ولم أجده في معاني القرآن.
(٥) انظر: التفسير البسيط: ٣/ ١٣٦، ولم اجده في معاني القرآن.
(٦) يقول العلامة ابن قيم الجوزية: " فإن قيل: فما معنى الإضراب: ب «بل» على هذا القول الذي قويتموه؟ .
أما على القول الآخر فظاهر، أي ليست قلوبكم محلا للعلم والحكمة، بل مطبوع عليها.
قيل: وجه الإضراب هنا في غاية الظهور. وهو انهم احتجوا بأن الله لم يفتح لهم الطريق إلى فهم ما جاء به الرسول ومعرفته، بل جعل قلوبهم داخلة في غلف فلا تفقهه. فكيف تقوم به عليهم الحجة؟ وكأنهم ادعوا أنّ قلوبهم خلقت في غلف، فهم معذورون في عدم الإيمان. فأكذبهم الله وقال: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} وفي الآية الأخرى: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ} فأخبر سبحانه أن الطبع والإبعاد عن توفيقه وفضله إنما كان بكفرهم الذي اختاروه لأنفسهم، وآثروه على الإيمان. فعاقبهم عليه بالطبع واللعنة.
والمعنى: ان الله تعالى لم يخلق قلوبهم غلفا لا تعي ولا تفقه، ثم أمرهم بالإيمان، وهم لا يفقهونه، بل اكتسبوا أعمالا عاقبناهم عليها بالطبع على القلوب والختم عليها". [تفسير القرآن الكريم لابن القيم: ص: ١٣٨].
(٧) التحرير والتنوير لابن عاشور: ١/ ٦٠٠.
(٨) مستفاد من كلام الحرالي رحمه الله نقلا عن نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي (٢/ ٣٤). قال: كما كان في حق إبليس مع آدم عليه السلام، فانتظم صدر هذه السورة إظهار الشيطنتين من الجن (إبليس) ومن الإنس (اليهود) وهو الذي انختم به القرآن في قوله: {من الجِنَّة والناس} (الناس: ٦) ليتصل طرفاه، فيكون لا أول له ولا آخر، والفاتحة محيطة به لا يقال: هي أوله ولا آخره، ولذلك ختم بعض القراء بوصله (= قرأ الناس ثم (ألم) البقرة) حتى لا يتبين له طرف، كما قالت المراة العربية لما سُئلت عن بنيها: هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها. انتهى كلامه. فسبحان مَنْ جعل كلام متصلاً ككلمةٍ واحدةٍ لا أول لها ولا آخر.
(٩) صفوة التفاسير: ١/ ٦٨.
(١٠) التفسير البسيط: ٣/ ١٣٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>