للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويكفرون ببعض: أنهم كفروا بما نهوا عنه من سفك الدماء، وإخراج أنفسهم من ديارهم؛ وآمنوا بفدائهم الأسرى؛ والذي يعبد الله على هذه الطريق لم يعبد الله حقيقة؛ وإنما عبد هواه؛ فإذا صار الحكم الشرعي يناسبه قال: آخذ به؛ وإذا كان لا يناسبه راوغ عنه بأنواع التحريف، والتماس الأعذار" (١).

وقد قال علماؤنا: كان الله تعالى قد أخذ عليهم أربعة عهود: ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، وفداء أساراهم، فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء، فوبخهم الله على ذلك توبيخا يتلى فقال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ} [البقرة: ٨٥] وهو التوراة {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: ٨٥]! ! (٢).

وقال الواحدي: " ولم يذمّهم على الفداء، بل على المناقضة، إذ أتوا ببعض الواجب، وتركوا بعضاً. وتكون المناقضة آكد في الذمّ، ولا يقال الإخراج معصية. فلم سماها كفراً؟ لأنا نقول: لعلهم صرّحوا بأن ترك الإخراج غير واجب، مع أن صريح التوراة كان دالاً على وجوبه. والبعض الذي آمنوا به، إن كان المراد بالكتاب التوراة، فيكون عامًّا فيما آمنوا به من أحكامها، وفداء الأسير من جملته. والبعض الذي كفروا به: هو قتل بعضهم بعضاً، وإخراج بعضهم من ديارهم، والمظاهرة بالإثم والعدوان، من جملة ما كفروا به من التوراة. وقيل: معناه يستعملون البعض ويتركون البعض، تفادون أسرى قبيلتكم، وتتركون أسرى أهل ملتكم ولا تفادونهم" (٣).

قال السعدي: " وهذا الفعل المذكور في هذه الآية، فعل للذين كانوا في زمن الوحي بالمدينة، وذلك أن الأوس والخزرج - وهم الأنصار - كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم مشركين، وكانوا يقتتلون على عادة الجاهلية، فنزلت عليهم الفرق الثلاث من فرق اليهود، بنو قريظة، وبنو النضير، وبنو قينقاع، فكل فرقة منهم حالفت فرقة من أهل المدينة، فكانوا إذا اقتتلوا أعان اليهودي حليفه على مقاتليه الذين تعينهم الفرقة الأخرى من اليهود، فيقتل اليهودي اليهودي، ويخرجه من دياره إذا حصل جلاء ونهب، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها، وكان قد حصل أسارى بين الطائفتين فدى بعضهم بعضا، والأمور الثلاثة كلها قد فرضت عليهم، ففرض عليهم أن لا يسفك بعضهم دم بعض، ولا يخرج بعضهم بعضا، وإذا وجدوا أسيرا منهم، وجب عليهم فداؤه، فعملوا بالأخير وتركوا الأولين، فأنكر الله عليهم ذلك فقال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ} وهو فداء الأسير {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} وهو القتل والإخراج، وفيها أكبر دليل على أن الإيمان يقتضي فعل الأوامر واجتناب النواهي، وأن المأمورات من الإيمان" (٤).

قوله تعالى: {فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحياة الدنيا} [البقرة: ٨٥]، "أي ما عقوبة من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض إِلا ذلٌ وهوان، ومقتٌ وغضب في الدنيا" (٥).

قال ابن عباس: " فأنبأهم بذلك من فعلهم، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فداء أسراهم" (٦).

قال السعدي: " وقد وقع ذلك فأخزاهم الله، وسلط رسوله عليهم، فقتل من قتل، وسبى من سبى منهم، وأجلى من أجلى" (٧).

قال الطبري: " (الجزاء): الثواب، وهو العوض مما فعل من ذلك والأجر عليه .. و (الخزي): الذل والصغار، يقال منه: " خزي الرجل يخزى خزيا" (٨).


(١) تفسير ابن عثيمين: ١/ ١٤٧.
(٢) تفسير القرطبي: ٢/ ٢٢.
(٣) البحر المحيط: ١/ ٢٥١.
(٤) تفسير السعدي: ٥٨.
(٥) صفوة التفاسير: ١/ ٦٦.
(٦) أخرجه ابن أبي حاتم (٨٧٤): ص ١/ ١٦٧.
(٧) تفسير السعدي: ٥٨.
(٨) تفسير الطبري: ٢/ ٣١٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>