للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يغفر لهم؛ فالكثرة هنا واقعة في الفعل، وفي المحل؛ في الفعل: كثرة غفرانه لذنوب عباده؛ وفي المحل: كثرة المغفور لهم؛ ويحتمل أن تكون صفة مشبهة؛ و {الغفور} مأخوذ من الغَفْر؛ وهو الستر مع الوقاية؛ وليس الستر فقط؛ ومنه سمي «المغفر» الذي يغطى به الرأس عند الحرب؛ لأنه يتضمن الستر، والوقاية؛ ويدل لذلك قوله تعالى إذا خلا بعبده المؤمن يوم القيامة، وحاسبه: "قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم" (١)، وقوله تعالى: {رَحِيمٌ}، صيغة مبالغة، أو صفة مشبهة من الرحمة؛ والرحمة صفة من صفات الله سبحانه وتعالى الذاتية الفعلية؛ فهي باعتبار أصل ثبوتها لله صفة ذاتية؛ وباعتبار تجدد من يرحمه الله صفة فعلية؛ ولهذا علقها الله سبحانه وتعالى بالمشيئة في قوله تعالى: {يعذب من يشاء ويرحم من يشاء} [العنكبوت: ٢١] فهي صفة حقيقية ثابتة لله عز وجل؛ وأهل التأويل - والأصح أن نسميهم أهل التحريف - يقولون: إن الرحمة غير حقيقية؛ وأن المراد برحمة الله إحسانه؛ أو إرادة الإحسان؛ فيفسرونها إما بالإرادة؛ وإما بالفعل؛ وهذا لا شك أنه خطأ؛ وحجتهم: أنهم يقولون: إن الرحمة رقة، ولين؛ والرقة، واللين لا تناسبان عظمة الخالق سبحانه وتعالى؛ فنقول لهم: إن هذه الرحمة رحمة المخلوق؛ أما رحمة الخالق فإنها تليق به سبحانه وتعالى؛ ولا تتضمن نقصاً؛ فهو ذو رحمة بالغة، وسلطان تام؛ فلا يرد بأسه عن القوم المجرمين" (٢).

قال الرازي: "أما قوله تعالى: في آخر الآية: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ففيه إشكال وهو أنه لما قال: {فلا إثم عليه} فكيف يليق أن يقول بعده: {إن الله غفور رحيم} فإن الغفران إنما يكون عند حصول الإثم.

والجواب: من وجوه أحدهما: أن المقتضى للحرمة قائم في الميتة والدم، إلا أنه زالت الحرمة لقيام المعارض، فلما كان تناوله تناولا لما حصل فيه المقتضى للحرمة عبر عنه بالمغفرة، ثم ذكر بعده أنه رحيم، يعني لأجل الرحمة عليكم أبحت لكم ذلك وثانيها: لعل المضطر يزيد على تناول الحاجة، فهو سبحانه غفور بأن يغفر ذنبه في تناول الزيادة، رحيم حيث أباح في تناول قدر الحاجة وثالثها: أنه تعالى لما بين هذه الأحكام عقبها بكونه غفورا رحيما لأنه غفور للعصاة إذا تابوا، رحيم بالمطيعين المستمرين على نهج حكمه سبحانه وتعالى" (٣).

وهنا مسائل تتعلق بالآية (٤):

١ - نجاسةُ الميتة حسيةٌ.

٢ - الذي يعيش في البر والبحر يعطى حكم البر تغليباً لجانب الحظر.

٣ - بالنسبة لميتة الآدمي - إذا اضطر إليها الإنسان - اختلف فيها أهل العلم -؛ فالمشهور عند الحنابلة أنه لا يجوز أن يأكلها - ولو اضطر -؛ وقالت الشافعية: «إنه يجوز أكلها عند الضرورة» - وهو الصحيح -.

٤ - كل المحرمات إذا اضطر إليها، وزالت بها الضرورة كانت مباحة؛ قلنا: «وزالت بها الضرورة» احترازاً مما لا تزول به الضرورة، كما إذا ما اضطر الإنسان إلى أكل سمّ - فلا يجوز أن يأكل -؛ لأنه لا تزول بها ضرورته؛ بل يموت به؛ ولو اضطر إلى شرب خمر لعطش لم يحل له؛ لأنه لا تزول به ضرورته؛ ولذلك لو احتاج إلى شربه لدفع لقمة غص بها حلّ له؛ لأنه تزول به ضرورته.

الفوائد:

١ - من فوائد الآية: تحريم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير لله.

٢ - ومنها: أن التحريم والتحليل إلى الله؛ لقوله تعالى: {إنما حرم عليكم}.


(١) أخرجه البخاري في (التفسير, باب وكان عرشه على الماء, ٤٦٨٠) , ومسلم في (التوبة, باب توبة القاتل, ٢٧٦٨) ; عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(٢) تفسير ابن عثيمين: ٢/ ٢٥٢ - ٢٥٣.
(٣) مفاتيح الغيب: ٥/ ١٩٤.
(٤) انظر: تفسير ابن عثيمين: ٢/ ٢٥٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>