للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال القرطبي: " أخبر تعالى بأن الشيطان عدو، وخبره حق وصدق، فالواجب على العاقل أن يأخذ حذره من هذا العدو الذي قد أبان عداوته من زمن آدم، وبذل نفسه وعمره في إفساد أحوال بني آدم، وقد أمر الله تعالى بالحذر منه فقال جل من قائل: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}، {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: ١٦٩] وقال: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: ٢٦٨] وقال: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء: ٦٠] وقال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: ٩١] وقال: {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص: ١٥] وقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: ٦] " (١).

قال البيضاوي: أي: " ظاهر العداوة عند ذوي البصيرة وإن كان يظهر الموالاة لمن يغويه، ولذلك سماه ولياً في قوله تعالى: {أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} " (٢).

قال ابن عثيمين: "أي ظاهر العداوة؛ وقد كان عدواً لأبينا آدم -صلى الله عليه وسلم-؛ فما زالت عداوته إلى قيام الساعة؛ وقال تعالى عنه: {لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً * ولأضلنَّهم ولأمنينَّهم ولآمرنَّهم فليبتكنَّ آذان الأنعام ولآمرنَّهم فليغيرنَّ خلق الله} [النساء: ١١٨، ١١٩]، ثم قال تعالى: {ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً} [النساء: ١١٩] " (٣).

وفي قوله تعالى: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوّ مُبِينٌ} [البقرة: ١٦٨]، وجهان من التفسير (٤):

أحدهما: قد أبان عداوته لكم بإبائه السجود لآدم، وهو الذي أخرجه من الجنة، وعليه، فإن قوله {مبين}: من أبان العداوة: إذا أظهرها.

والثاني: أن يكون الـ {مبين} بمعنى: الظاهر هاهنا؛ لأن (أبان) يتعدى، وقد لا يتعدى.

الفوائد:

١ - من فوائد الآية: إظهار منة الله على عباده، حيث أباح لهم جميع ما في الأرض من حلال طيب؛ لقوله تعالى: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً}.

٢ - ومنها: أن الأصل فيما في الأرض الحل والطيب حتى يتبين أنه حرام.

٣ - ومنها: أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؛ لقوله تعالى: {يا أيها الناس}؛ وهم داخلون في هذا الخطاب؛ ومخاطبتهم بفروع الشريعة هو القول الصحيح؛ ولكن ليس معنى خطابهم بها أنهم ملزمون بها في حال الكفر؛ لأننا ندعوهم أولاً إلى الإسلام، ثم نلزمهم بأحكامه؛ وليس معنى كونهم مخاطبين بها أنهم يؤمرون بقضائها؛ والدليل على الأول قوله تعالى: {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله} [التوبة: ٥٤]؛ فكيف نلزمهم بأمر لا ينفعهم؛ هذا عبث، وظلم؛ وأما الدليل على الثاني فقوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: ٣٨]؛ ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحداً ممن أسلم بقضاء ما فاته من الواجبات حال كفره؛ والفائدة من قولنا: إنهم مخاطبون بها – كما قال أهل العلم – زيادة عقوبتهم في الآخرة؛ وهذا يدل عليه قوله تعالى: (إلا أصحاب اليمين* في جنات يتساءلون* عن المجرمين* ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين* ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين* وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين} [المدثر: ٣٩ - ٤٧].

٤ - ومن فوائد الآية: تحريم اتباع خطوات الشيطان؛ لقوله تعالى: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين}؛ ومن ذلك الأكل بالشمال، والشرب بالشمال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يأكل أحدكم بشماله،


(١) تفسير القرطبي: ٢/ ٢٠٩.
(٢) تفسير البيضاوي: ١/ ١١٨.
(٣) تفسير ابن عثيمين: ٢/ ٢٣٤.
(٤) انظر: تفسير الثعلبي: ٢/ ٣٩، واللسان: ١/ ٤٠٦ (بين)، والمفردات: ٤٥ - ٤٦، وزاد المسير: ١/ ١٧٢، والتفسير البسيط: ٣/ ٤٨٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>