للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الرازي: "والظاهر أن المراد: الأعمال التي اتبعوا فيها السادة، وهو كفرهم ومعاصيهم، وإنما تكون حسرة بأن رأوها في صحيفتهم، وأيقنوا بالجزاء عليها، وكان يمكنهم تركها والعدول إلى الطاعات، وفي هذا الوجه الإضافة حقيقية لأنهم عملوها، وفي الثاني مجاز بمعنى لزمهم فلم يقوموا به" (١).

قال الطبري: {حَسَرَاتٍ} جمع حسرة؛ وكل اسم كان واحده على (فَعْلة) مفتوح الأول ساكن الثاني، فإن جمعه على (فَعَلات) مثل: شَهوة وتَمرة، تجمع (شَهوات وتَمرات) مثقَّلة الثواني من حروفها، فأما إذا كان نَعتًا فإنك تَدع ثانيَه ساكنًا مثل (ضخمة)، تجمعها (ضخْمات) و (عَبْلة) تجمعها (عَبْلات)، وربما سُكّن الثاني في الأسماء، كما قال الشاعر (٢):

عَلَّ صُرُوفَ الدَّهْرِ أوْ دُولاتِهَا ... يُدِلْنَنَا اللَّمَّة مِنْ لَمَّاتِهَا

فَتَسْتَرِيحَ النَّفْسُ مِنْ زَفْرَاتِهَا

فسكنّ الثاني من " الزفرات "، وهي اسم" (٣).

و(الحسرة): "هي الندم مع الانكماش، والحزن؛ فهؤلاء الأتباع شعورهم بالندم، والخيبة، والخسران لا يتصور؛ فالأعمال التي عملوها لهؤلاء المتبوعين صارت - والعياذ بالله - خسارة عليهم، وندماً؛ ضاعت بها دنياهم، وآخرتهم؛ وهذا أعظم ما يكون من الحسرة" (٤).

وقال الزجاج: " والحسرة: شدة الندم، حتى يبقى النادم كالحسير من الدواب الذي لا منفعة فيه، ويقال: حسر فلان يحسر حسرة وحسرا: إذا اشتد ندمه على أمر فاته، قال المرار (٥):

ما أنا اليوم على شيء خلا ... يا ابنة القين تولى بحسر

أي: بنادم" (٦).

واختلف في أصل (الحسرة) في اللغة، على قولين (٧):

أحدهما: أنها مشتقة من الشيء الحسير الذي قد انقطع وذهبت قوته كالبعير والبصر.

والثاني: أنها: من حسر إذا كشف، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يحسر الفرات عن جبل من ذهب» (٨).

قال الواحدي: "وأصل الحسر: الكشف، يقال: حسر عن ذراعه، والحسرة: انكشاف عن حال الندامة، والحسور: الإعياء؛ لأنه انكشاف الحال عما أوجبه طول السفر، والمحسرة: المكنسة؛ لأنها تكشف عن الأرض، والطير تنحسر؛ لأنها تنكشف بذهاب الريش" (٩).


(١) مفاتيح الغيب: ٤/ ١٨١.
(٢) لم أتعرف على قائله، والبيت من شواهد الطبري/ ٣/ ٢٩٤، واللسان (لمم) (زفر) (علل) وغيرها. والدولة (بفتح فسكون) والدولة (بضم الدال): العقبة في المال والحرب وغيرهما، وهو الانتقال من حال إلى حال، هذا مرة وهذا مرة. ودالت الأيام: دارت بأصحابها. ويروي: " تديلنا " وأداله: جعل له العقبة في الأمر الذي يطلبه أو يتمناه، بتغيره وانتقاله عنه إلى حال أخرى. واللمة: النازلة من نوازل الدهر، كالملمة.
(٣) تفسير الطبري: ٣/ ٢٩٤.
(٤) تفسير ابن عثيمين: ٢/ ٢٣١.
(٥) البيت للمرار في "لسان العرب" ٢/ ٨٦٩، والتفسير البسيط: ٣/ ٤٨١.
(٦) حكاه عنه الواحدي في التفسير البسيط: ٣/ ٤٨١، ولم نقف عليه في معاني القرآن.
(٧) انظر: المحرر الوجيز: ١/ ٢٣٦.
(٨) رواه البخاري في صحيحه في كتاب الفتن (٨/ ١٠٠) باب خروج النار، ومسلم في كتاب الفتن (برقم ٢٨٩٤) باب لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب.
(٩) التفسير البسيط: ٣/ ٤٨١ - ٤٨٢، وانظر: في معاني حسر: "تفسير الطبري" ٢/ ٧٣ - ٧٤، "تفسير الثعلبي: ٢/ ٣٧، والمفردات" ص ١٢٥، "تاج العروس" ٦/ ٢٧٣.
وفي رواية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوشك الفرات أن يحسر عن كنز من ذهب فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً. نفس المراجع السابقة، ورواه أيضاً أبو داود (برقم ٤٣١٣) والترمذي (برقم ٢٥٧٢).
وعن عبد الله بن الحارث بن نوفل رضي الله عنه قال: كنت واقفاً مع أبي بن كعب، فقال: لا يزال الناس مختلفة أعناقهم في طلب الدنيا؟ قلت: أجل، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يوشك الفرات أن ينحسر عن جبل من ذهب، فإذا سمع به الناس ساروا إليه، فيقول من عنده: لئن تركنا الناس يأخذون منه ليذهبن به كله، قال: فيقتتلون عليه، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون. مسلم (برقم ٢٨٩٥).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تذهب الدنيا حتى ينجلي فراتكم عن جزيرة من ذهب، فيقتتلون عليه، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون. رواه حنبل بن إسحاق في كتابه الفتن (ص ٢١٦) بسند صحيح.
وأخرج هذا الحديث بالإضافة إلى الإمامين البخاري ومسلم، كل من عبدالرزاق في مصنفه (١١/ ٣٨٢) عن أبي هريرة، والإمام أحمد في مسنده (٢/ ٣٠٦) عن معمر، وفي (٢/ ٣٣٢) من طريق زهير، وكذلك في (٥/ ١٣٩ ١٤٠) عن طريق كعب. وأبو داود في سننه (٤/ ٤٩٣) والترمذي في سننه (٤/ ٦٩٩)، وابن ماجة في سننه (٢/ ١٣٤٣). كما أورده كل من الإمام أبي عمرو الداني في كتابه السنن الواردة في أكثر من موضع. وأيضاً أورده الإمام الحافظ نعيم بن حماد في الفتن في أكثر من موضع، وأورده ابن كثير في كتابه النهاية في الفتن والملاحم.
وقد جاءت ألفاظ أخرى شاذة للحديث المذكور، وهي: ليحسرن الفرات عن جبل من ذهب حتى يقتتل عليه الناس، فيقتل من كل عشرة تسعة. أخرجه ابن ماجة في سننه (٢/ ١٣٤٣)، والإمام أحمد في مسنده (٢/ ٢٦١، ٣٤٦، ٤١٥). قال البوصيري: إسناده صحيح ورجاله ثقات: زوائد ابن ماجة (٢/ ٣٠٦). والحديث أورده الحافظ في الفتح (١٣/ ٨١)، وقال: وهي رواية شاذة، والمحفوظ ما تقدم من حديث أبي هريرة عند مسلم، وشاهد من حديث أبي بن كعب: من كل مائة تسعة وتسعون. وقال الألباني عنه: حسن صحيح دون قوله: من كل عشرة تسعة، فإنه شاذ. صحيح ابن ماجة (٢/ ٣٧٧).
وكذلك وردت رواية أخرى عند نعيم بن حماد في الفتن (برقم ٩٢١) من طريق آخر عن يحيى بن أبي عمرو عن أبي هريرة مرفوعاً، وفيه: من كل تسعة سبعة، وهو منقطع لأن يحيى روايته عن الصحابة مرسلة، كما في التقريب (ص ٣٧٨)، وشيخ نعيم مبهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>