للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كما قال تعالى عن العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، وقد ثبت في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قال: " بشرك" (١)، ثم تلا قول لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، وقال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: ١٠٦]، أي: "من المشركين بالله، الظالمي أنفسهم" (٢).

ولم يأت الظلم في القرآن إلا بهذا المعنى، إلا في موضع واحد في سورة الكهف، بمعنى النقص، كما قال تعالى {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا} [الكهف: ٣٣]، أي و"لم تنقص" (٣).

وقيل: {أن}: "في موضع نصب مفعول من أجله، أي لأن القوة لله جميعا. وأنشد سيبويه (٤):

وأغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرما

أي لادخاره، والمعنى: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب لأن القوة لله لعلمت مبلغهم من النكال ولاستعظمت ما حل بهم. ودخلت "إذ" وهي لما مضى في إثبات هذه المستقبلات تقريبا للأمر وتصحيحا لوقوعه" (٥).

وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله تعالى: {ولو يرى الذين ظلموا إِذْ يَرَوْنَ العذاب} [البقرة: ١٦٥]، على ثلاثة أوجه (٦):

أحدها: {ولو يرى الذين ظلموا إِذْ يَرَوْنَ العذاب} بياء الغيبة في {يرى}، وبفتح الياء في {يَرَوْنَ}، على الإخبار عمن جرى ذكرهم كأنه قال: ولو يرى الذين ظلموا أنفسهم باتخاذ الأنداد.

الثاني: {ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب} بتاء الخطاب في {ترى}، خطابا للنبي عليه السلام، كأنه قال: لو ترى يا محمد الذين ظلموا.

وهي قراءة نافع وابن عامر ويعقوب.

الثالث: وبفتح الياء في {يَرون}؛ وبضمها: {يُرون}. وهي قراءة ابن عامر، على التعدية وحجته قوله تعالى: {كذالك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم} والباقون (يرون) بالفتح على إضافة الرؤية إليهم.

وقد رجح بعضهم القراءة الأولى، "لأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين قد علموا قدر ما يشاهده الكفار، ويعاينون من العذاب يوم القيامة، أما المتوعدون في هذه الآية فهم الذين لم يعلموا ذلك، فوجب إسناد الفعل إليهم (٧).

وقرأ أبو جعفر ويعقوب {إن القوة وإن الله} بكسر الألف على الاستئناف والكلام تام عند قوله {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} مع إضمار الجواب" (٨)، وأما القراء السبع فعلى فتح الألف فيها (٩).


(١) رواه البخاري: كتاب الأنبياء (٣٦٣٦): باب قول الله تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلا)، عن عبد الله رضي الله عنه قال: "لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قلنا: يا رسول الله، أينا لا يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون، لم يلبسوا إيمانهم بظلم، بشرك. أولم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ".
(٢) تفسير الطبري: ١٥/ ٢١٩.
(٣) تفسير الطبري: ١٠/ ٣٥٧.
(٤) البيت لحاتم الطائي، الجواد المشهور. انظر: ديوانه: ٢٤، ونوادر أبي زيد: ١١، والخزانة: ١/ ٤٩١، وشرح ابن عقيل: ٢/ ١٩٠
(٥) تفسير القرطبي: ٢/ ٢٠٥.
(٦) انظر: السبعة في القراءات: ١٧٣ - ١٧٤، مفاتيح الغيب: ٤/ ١٧٨، وتفسير ابن عثيمين: ٢/ ٢٢٣ - ٢٢٤.
(٧) مفاتيح الغيب: ٤/ ١٨٩.
(٨) انظر: تفسير البغوي: ١/ ١٧٩.
(٩) انظر: مفاتيح الغيب: ٤/ ١٨٩. قال الإمام الرازي: لما عرفت أن {يرى الذين ظلموا} قراء تارة بالتاء المنقوطة من فوق وأخرى بالياء المنقوطة من تحت، وقوله: {أن القوة} قراء تارة بفتح الهمزة من (أن) وأخرى بكسرها حصل ههنا أربع احتمالات:
الاحتمال الأول: أن يقرأ {ولو يرى} بالياء المنقوطة من تحت مع فتح الهمزة من (أن) والوجه فيه أنهم أعملوا يرون في القوة والتقدير: ولو يرون أن القوة لله: ومعناه، ولو يرى الذين ظلموا شدة عذاب الله وقوته لما اتخذوا من دونه أندادا فعلى هذا جواب (لو) محذوف وهو كثير في التنزيل كقوله: {ولو ترى * إذا * وقفوا على النار} (الأنعام: ٢٧)، {ولو ترى إذ الظالمون فى غمرات الموت} (الأنعام: ٩٣)، {ولو أن قرانا سيرت به الجبال} (الرعد: ٣١) ويقولون: لو رأيت فلانا والسياط تأخذ منه، قالوا: وهذا الحذف أفخم وأعظم لأن على هذا التقدير يذهب خاطر المخاطب إلى كل ضرب من الوعيد فيكون الخوف على هذا التقدير مما إذا كان عين له ذلك الوعيد.
الاحتمال الثاني: أن يقرأ بالياء المنقوطة من تحت مع كسر الهمزة من (إن) والتقدير ولو يرى الذين ظلموا عجزهم حال مشاهدتهم عذاب الله لقالوا: إن القوة لله.
الاحتمال الثالث: أن تقرأ بالتاء المنقوطة من فوق، مع فتح الهمزة من (أن) وهي قراءة نافع وابن عامر قال الفراء: الوجه فيه تكرير الرؤية والتقدير فيه ولو ترى الذين ظلموا إذا يرون العذاب ترى أن القوة لله جميعا.
الاحتمال الرابع: أن يقرأ بالتاء المنقوطة من فوق، مع كسر الهمزة، وتقديره: ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب لقلت أن القوة لله جميعا، وهذا أيضا تأويل ظاهر جيد. (مفاتيح الغيب: ٤/ ١٨٩ - ١٩٠)

<<  <  ج: ص:  >  >>