الليث .. البيت» على جماله لا يخرج عن حد المبالغة، إذ نحن نعلم أن بدرًا لم يقتل الأسد وإنما قتله أعوانه، وحتى إذا صح لبدر أنه جدّل الأسد بضربة من سوطه مفاجئة، فليس في ذكر كبير مدح، فالزرافة وهي أجبن من الصافر (١) ترمح الأسد فتلقيه على الأرض، ثم يثب عليها فيمزّقها إربًا إربًا. وقد صرّح المتنبي بأن الذي خذل الأسد ليس بدرًا الممدوح وإنما هو كثرة الأعداء مع عون القدر، وتلمح ذلك في قوله:«أنف الكريم ... البيت». وهذا وقد أربى أبو عبادة على المتنبي بأنه رسم لنا صورة كاملة للأسد وهو ملك في أجمته العاشبة -والأسود تسكن أماكن العشب- وأبرز لنا ألوانها المختلفة ثم ترك لخيالنا أن يتأمل الأسد يخطر بلبدته ولونه الأدهس، مدلاً بقوته وسلطانه. وهذا منهج من القول لا يقوى عليه المتنبي مع ما أوتيه من مقدرة. ثم إن البحتري برّز على المتنبي بصفة المبارزة، وقد أضفى عليها كل ما يستطاع إضفاؤه من الجلالة والرهبة، مع ميل إلى جانب الممدوح وإشادة ببسالته. والمتنبي مال ميلاً بينا إلى جانب الأسد حتى كاد ينسب ميتته إلى القضاء، وذلك قوله «خذلته قوته ... البيت» وقد بلغ من ميل المتنبي مع الأسد أنه تمنى له أن لو كان قد اتخذ الفرار خطة فنجا، ثم اعتذر له بأنه آثر الحمية والحفاظ ودرء العار. وكأن المتنبي تصور نفسه في ذلك الأسد، فنسب إليه من الكرامة والشمم ما كان يدعيه لنفسه. وقد افتضح المتنبي بعد فراغه من نعت المعمعة فلم يستطع أن يقول في ممدوحه شيئًا ألا الكفر والمبالغة التي لا طعم لها، نحو قوله:
لو كان علمك باءلاله مقسمًا ... في الناس ما بعث الإله رسولا
ولكن البحتري كان كالفرس الجواد، بلغ غاية حضره ثم لم تزل فيه بقيةٌ مصطفاة لممدوحه الكريم يختم بها حر كلامه. على أني لا أبغي أن أتنقص أبا الطيب حقه، فإنه قد أبلغنا صورة مفزعة مرعبة لن نفتأ نعدها على كر الليالي من حسنات