قال- من ذلك:
فأغلبه في صنعة الزاد إنني ... أميط الأذى عنه وما إن يهلل
فقول أبي الطيب «فإني بأسباب المعيشة أعلم» من هاهنا.
وما خلا أبو الطيب، في ذكر الفروسية والفخر بها، من أخذه من عنترة وعنترة بيانه من الأصل البياني الأول، الذي أسلوب الملاحم فرع منه، وذلك أنه لا يقص علينا سيرة بطل آخر يحاكي أفعاله بقول يزينه، ولكنه يقص سيرة نفسه علينا، يمزج بين الغرف من بحر تجربتها ومن المثل الأعلى، الذي هو حينًا من لبه- كما قال:
ذلل ركابي حيث كنت مشايعي ... لبي وأحفزه بأمر مبرم
وحينًا من وصاة عمه- كما قال:
ولقد حفظت وصاة عمي بالضحى ... إذ تقلص الشفتان عن وضح الفم
وفي معنى عمه بعض الدلالة على ابنة عمه. وكأن العم كناية عن الحسب والشرف وابنة العم كناية عن المحبوبة- فالعم كما ترى هو الولي الذي يغار عليها ويشترط الشروط على من يلتمس الصهر عنده.
هذا وبعد أن قال أبو الطيب «صحبت في الفلوات الوحش مغتربًا» أعلن عزمه على الرحلة والفراق:
يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم
هذا هو البيت الرابع والعشرون. وبيت «القور والأكم» قبله هو آخر تخصير القصيدة، وهذا البيت أول قسمها الثالث. غير أننا نلفت نظر القارئ الكريم إلى تصرف تصرفه أبو الطيب في التخصير، هو من سنخ تخلصه في سائر أجزاء القصيدة. وذلك أنه وشح التخصير أو قل نطقه بأبيات كأنها خروج منه إلى القسم الثالث، ولكنها ليست بخروج، فطال بذلك التخصير بعض الطول للوصل الذي بينه وبين القسم الثالث وهو من عند قوله:
ومهجة مهجتي من هم صاحبها ... أدركتها بجواد ظهره حرم
إلى قوله:
صحبت في الفلوات الوحش ...
وإنما زعمنا أن هذا نطاق لقوة الشبه بينه وبين ما يقع بحسب عادة الشعراء في القسم الثالث من الذكرى نحو: «وقد أغتدى والطير» في «قفا نبك» ونحو «قد أشهد الشرب فيهم مزهر رنم» في «هل ما علمت». ولكنه ليس حقًا مبدأ قسم ثالث، إذ مبدأ القسم الثالث من عند «يا من يعز علينا». وفيه عودة إلى ما بدأ به التخصير وهو قوله «يا أعدل الناس إلا في معاملتي» وقد فصل هنا ما أجمله هناك: