للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والشخصيات جميع أولئك معًا. وبطلان المحاكاة لا يجعل الشاعر غنائيًا بالمعنى الاصطلاحي الآنف الذكر أي ذاتيًا محدود المدى بالذات، فقد أخرجه تقمصه المثل الأعلى وما يحف به من حدود ضيق الذات. ومن أجل ذلك ما زعمت العرب أن للشاعر رئيًا وقرينًا. ومن أجل ذلك ما زعم أبو عمرو بن العلاء أن شعراء العرب في العرب بمنزلة أنبياء بني إسرائيل في بني إسرائيل. ومن أجل ذلك ما قال عمر رضي الله عنه إن الشعر كان علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه.

وقفنا هذه الوقفة التي كأنما هي استطراد وليست به، لنقرر معنى ما قدمناه من تشبيه نحو المقابلة التي في قول أبي الطيب «يا أعدل الناس إلخ» بعد مقاله «أما ترى ظفرًا حلوا سوى ظفر» بالتحول المسرحي. ولا نزعم بعد أن ها هنا عنصرًا مسرحيًا إلا على سبيل التقريب والمجاز، على نحو ما يكون قد سبق منا من القول من قبل. ولكن الذي نقطع به أن العنصر البياني الذي اشتق منه النوع المسرحي، موجود في هذا الشعر وفي كثير من جياد القصائد عند القدماء والمحدثين الذين جاءوا بعدهم من شعراء بني العباس والعصور التي تلتهم. وليس قولنا العنصر البياني الذي اشتق منه النوع المسرحي بأمر من المغالطة اللفظية. فقد كفانا توضيح هذا الجانب من حيث معدنه ومعناه، الفيلسوف أرسطو طاليس إذ ذكر أن كلا المسرحية والملحمة محاكاة للطبيعة- تعتمد الملحمية على القصص وتعتمد المسرحية على محاكاة الأفعال ومواجهة الناس بها.

المواجهة مع ما يكون معها من ضروب التأثير بالحكمة والحماسة والفكاهة وحلو الكلام ومره، ذلك هو العنصر البياني الأصل. والتعبير المسرحي فرع، وقد عابه أفلاطون لما فيه من الاستتار والتمويه. وهذا بعد باب آخر.

وعند الشاعر العربي عنصر المواجهة صلتا، وقد فصلنا القول من قبل في أمر ما يجعله الشاعر درعًا لمقاتل نفسه حين يجهر بالقول من عدوان الناس.

ولقد نعلم أن تلك الدرع على سبوغها كثيرًا ما كانت تهتك أو تنتهك عن المقاتل. وحسبك شاهدًا في الأولين طرفة. وفي الآخرين أبو الطيب. هذا الذي نحن في معرض الحديث عنه. وقد كادت هذه الميمية تقتله. ولعل شيئًا من صداها لم يخل من مشاركة في مقتله. ولقد زعموا أن غلامًا له قال له لما أراد الفرار ألست القائل:

الخيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف والرمح والقرطاس والقلم

قالوا فقال له ما معناه قتلتني قتلك الله وكر راجعًا فقتل. فهذا الخبر أصح أم لم يصح فيه نوع من الدلالة على ما قدمنا.

<<  <  ج: ص:  >  >>