للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهنا هذه البطولة الفكرية التي جهر بها الشاعر جسور القلب لا يبالي، وسماها أبو منصور إساءة الأدب بالأدب (١). ومع ذلك نص على هذه القصيدة أنها من المختار.

يا أعدل الناس إلا في معاملتي ... فيك الخصام وأنت الخصم والحكم

أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم

وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم

هم الظلم وأنا الأنوار- ومهدت هذه المقابلة لقوله من بعد «أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي».

ولا يخفى أن قوله: «يا أعدل الناس إلا في معاملتي» بعد ما كان أطرب سيف الدولة به من المدح في قوله: «أما ترى ظفرًا حلوًا سوى ظفر» فيه المقابلة التي هي قريب مما سماه أرسطو طاليس بالتحول: (Peripety) في حديثه عن المسرح.

ويستوقفني هنا، لو يذكره القارئ الكريم، مقال شارلس ليال الذي أوردناه في أول هذا الجزء، حيث قال في بعض ما قاله عن شكل الشعر العربي القديم: «وأبعد من ذلك أن يقال مسرحي لأن الشخص الوحيد والمقياس الوحيد المعروفين للمتكلم هما نفسه ومثله الأعلى الذي يعتقده» أ. هـ. ليت شعري هل أحس «ليال» بوجود عنصر مسرحي في شعر العرب الذي اطلع عليه ثم أعياه أمر هذا العنصر إذ لم يجد فيه لا تعدد الشخصيات ولا محاكاة طبيعة أعمال الناس وأقوالهم على الحد الذي حده أرسطو في مسرحيات يونان وسير عليه من بعد في آداب الروم والفرنجة؟

يخطئ من يحسب أن «ليال» أراد بقوله هذا أن يصف شعر العرب بأنه غنائي بالمعنى الاصطلاحي عندهم، أي ذاتي محدود بذلك أن تكون له أبعاد تتخطى الذات إلى ما وراءها من آفاق الفكر والخيال. فقد احترس من أن يفهم عنه هذا الفهم بقوله «هما نفسه ومثله الأعلى» فجعل المثل الأعلى رديفًا وصنوًا وقرينًا للنفس. في المسرحية يصير المثل الأعلى بطلاً أو أبطالاً وشخصيات بينهن حوار من أقوال وأفعال. وعند الشاعر العربي تبطل هذه المحاكاة ويصير الشاعر بخياله وانفعاله هو البطل والأبطال


(١) انظر كتابنا مع أبي الطيب طبع الخرطوم ١٩٦٨ م ومقالنا شاعرية المتنبي المناهل العدد ١٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>