للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واحر قلباه ممن قلبه شبم ... ومن لجسمي وحالي عنده سقم

وهي خطابية جهيرة. غير أن شكلها لمن تأمله أقدم معدنا وجوهرًا من خطابيات أبي تمام وبشار. إذ أبو الطيب كما يغرف من بحر التجارب وكما يحتوي محاسن حبيب والوليد وابن الرومي وينتهب منها ومن غيرهم من مفلقي المحدثين، يتجاوز هؤلاء على أخذه منهم وانتهابه، إلى شعراء الجاهلية، بنظر شديد يجمع فيه بين الأصالة المبدعة والحذو البارع المفتن.

في هذه الميمية العكاظية- قالوا إنه أنشدها في محفل من العرب، وقال أبو منصور ما معناه أن أكثرها على جودتها يدخل في باب إساءة الأدب بالأدب- حذو ما على شكل التخصير القديم. أي الشكل الذي يفصل الشاعر بين أول قسم منه وآخر قسم بالحكمة أو ما يجري مجراها. وقد ضربنا أمثلة من تصرف الشعراء في هذا البا. منهن لامية كعب ابن زهير. وحذو هذه اللامية في الشكل وفي معدن الوزن حذا أبو الطيب. ولا غرو فهي اعتذار ضمنه التماس يتبرأ به كأنما هو عتاب رقيق:

لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم ... أذنب وإن كثرت في الأقاويل

لقد أقوم مقامًا لو يقوم به ... أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل

لظل يرعد إلا أن يكون له ... من الرسول بإذن الله تنويل

حتى وضعت يميني لا أنازعها ... في كف ذي نقمات قيله القيل

فلهو أهيب عندي إذ أكلمه ... وقيل إنك منسوب ومسئول

من ضيغم بضراء الأرض مسكنه ... من بطن عثر غيل دونه غيل

يغدو فيلحم ضرغامين عيشهما ... لحم من القوم معقور خراديل

هل أراد بقوله «عيشهما» ههنا «خبزهما»؟ في بعض اللغات السامية أن اللحم هو الخبز؟

إذا يساور قرنًا لا يحل له ... أن يترك القرن إلا وهو مجدول

منه تظل سباع الجو خائفة ... ولا تمشي بواديه الأراجيل

ولا يزال بواديه أخو ثقة ... مطرح البز والدرسان (١) مأكول

حذا أبو الطيب على: «بانت سعاد». وإنك لتحس عنده أنفاس إيقاعها وصدى من روح صياغتها. قال كعب:


(١) هو السلاح والدرسان: النياب.

<<  <  ج: ص:  >  >>