للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وذلك أن القريض ينبغي أن يسار بآخره على ما سار عليه أوله، لين في غير ضعف وهو صفاء الديباجة ونقاؤها وجودتها وشدة في غير عنف وهو بداوتها ومتانة أسرها وجزالتها. وسر الديباجة كامنٌ في الفصاحة وسلامة الذوق في اختيار الألفاظ وصياغة التراكيب. وسر البداوة والجزالة كامن في الإقدام على المعاني والقول بلا تهيب. ويجمع بين السرين فيزاوج بينهما ويؤلف انسجامهما صدق بيان الشاعر عن قلبه. ولذلك زعم الجاحظ في البيان والتبين أن المعاني أسرار مستكنة في القلوب. وهذا لا يناقض قوله إن المعاني مطروحة في الطريق، بل يكمله ويتممه. معاني الحب من وجد ولوعة وشوق وغيره وما أشبه مطروحة في الطريق يتفاوت في توليد دقائقها أهل البيان. ولكن حب جميل لبثينة وإحساسه بكذا وكذا من وصلها وبينها أماني النفس مقبلة إليها أو منحرفةً عنها سر كان في قلبه، أفصح ببيانه عنه، فاختلفت معانيه التي أبان بها فيه عن معاني كثير اختلافًا جعل النقاد يقولون جميل أصدق صبابة، وإن كثيرًا كان يكذب. وهذا مجرد تمثيل يمثل به حال المعنى في كونه معرضًا أي ممكنًا وفي كونه مستعصيًّا مستكنًا يحتاج الشاعر في استخراجه إلى صدق عن نفسه وجسارة لا تتهيب أن يقول فيبين عما أحس ومقدرة على الأداء الفصيح المعبر. الفصاحة عنصر يستفاد بالدربة وكذلك التجويد. أما الصدق والجسارة فهما أصلان لا يغني مكانهما شيء من صنعة أو تفاصح وتجويدٍ.

وقد أوتي أبو تمام ملكة وعلمًا وفصاحة وذوقًا ناقدًا. وكان ذا فطنة حادة تقهر بوادرها الخصوم. وأدرك بها للشعر في ذات نفسه طبيعة بداوة ليس معدنها هو معدن جلافة الأعراب، ولكنه شيء فكري فني محض. كان عند القدماء طريقة قول ومذهب أداء يضمنونه الحكمة، والوصف والغزل والمدح والهجاء وهلم جرا. وينبغي أن يكون الآن كما قد كان في الماضي طريق قول ومذهب أداء يتضمن الحكمة والوصف والغزل والمدح والهجاء وهلم جرا.

<<  <  ج: ص:  >  >>