للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد كانت العرب تصف ضروبًا مما يقع فيه الرنين الجهير المنسجم المؤتلف مع اللفظ الرائق بالتحبير والمحبر وما أشبه وقد مر بك قول أبي قردودة «ومنطقًا مثل وشي اليمنة الحبرة» وسموا طفيلًا الغنوي محبرًا وكذلك عامر بن الطفيل. وإذا تأملت شعر هذين وشعر النابغة والقطامي وجدت فيه هذه الصفة من استواء الكلام ونقائه، وقد غبرت دهرًا أود لو أن القدماء عرفوا لنا معنى الديباجة بتعريف وحد يحدونه، ثم بعد النظر صح عندي أنه لا يستطاع في تعريفها أدل عليها منها إذ هم قد جاءوا بها على وجه التشبيه لها فكان ذلك من ذات نفسه دالًا دلالة كافية، وكأنهم بتذوقهم للأسلوب كأنما ينظرون إليه فيرون نسجه كنسج الديباج ويلمسونه فيجدون له مس نعومته مع المتانة والتماسك. وأهل الديباجة من المحدثين ليسوا كأهلها من القدماء، إذ القدماء أصل والمحدثون محاكون لهم. ولعلنا لا نباعد إن زعمنا أن مسلمًا قدسن ببديعه طريق صفاء الديباجة لمن جاء بعده.

وكان معاصره أبو نواس أقعد في بداوة اللسان وفي بداوة القلب منه على حضرتيهما معًا. وكانت طريقة أبو نواس صادرة عن ملكة أقوى. فكأن ما كان مسلم يتكلفه من جناس وطباق وزيادة زخرف قد كان هو ينفر منه، وإلى هذا أشار صاحب الموشح إذ ذكر ما رووه من أن مسلمًا فخر على أبي نواس فأقر له هذا بأنه لا يستطيع أن يقول كقوله:

سلت وسلت ثم سل سليلها ... فأتى سليل سليلها مسلولا

والجهد هنا لا يخفى وفيه كالروم لمذهب:

معروريا رمض الرضراض يركضه ... والشمس حيرى لها بالجو تدويم

ويشبه استهزاء أبي نواس في هذا الخبر استهزاء الفرزدق بذي الرمة إذ قال:

ودوية لو ذو الرميم يرومها ... بتوضح أودى ذي الرميم وتوضح

قطعت إلى معروفها منكراتها ... وقد خب آل الأمعز المتوضح

<<  <  ج: ص:  >  >>