ولعلك لمحت هنا طريقة تجسيم الخمر إذ جعلها فتاة والافتنان في وجوه التشبيه والاستعارة مع حفاظ على نوع بدوي المعادن من شدة الأسر، منبئ عن صناعة وتحليل قد توصل به إلى ذلك. وأحسن ابن المعتز إذ يقول في نعت القصيدة التي منها هذه الأبيات:«وهي مشهورة سائرة جيدة عجيبة. ومما يستحسن له -على أن شعره كله ديباج حسن لا يدفعه عن ذلك أحد قوله:
فإني وإسماعيل يوم وداعه ... لكالغمد يوم الروع زايله النصل
فإن أغش قومًا بعده أو أزرهم ... فكالوحش يدنيها من الأنس المحل
وهذا معنى لا يتفق للشاعر مثله في ألف سنة». أ. هـ.
قلت وآخر هذا الكلام قد بالغ فيه شيئًا وهو يعلم قول جرير:
وقد ألفت وحشهم برفق ... وأعيا الناس وحشك أن يصادا
وقال ابن المعتز في أول مقاله في مسلم بن الوليد بعد أن ذكر لقبه وأسند خبره:«كان مسلم بن الوليد مداحًا محسنًا مجيدًا مفلقًا وهو أول من وسع البديع؛ لأن بشار بن برد أول من جاء به، ثم جاء مسلم فحشًا به شعره، ثم جاء أبو تمام فأفرط فيه وتجاوز المقدار».
أما قول ابن المعتز:«إن شعره كله ديباجٌ حسن» فيوقف عنده. والنقاد مما يصفون الشعر أحيانًا كثيرة بصفاء الديباجة وجودتها، يعنون بذلك أن إيقاعها ذو رنين جهير منسجم وألفاظها مطيعة لذلك الإيقاع منسابة معه وهو مع ذلك متلاحم في أسرٍ مع قوته ذي مرونة. كلمة الديباج في أصلها معربة، ولكنه تعريب قديم. قال الراجز:
تالله للنوم على الديباج ... على الحشايا وسرير العاج