الحائز على الفضائل الخلقية التي يقتضيها حكم الآخرين فحسب، بل هو الحائز أيضًا على الحكمة في معرفة ما هو الخير. وغاية الحاكم إنما هي أن يقيم العدل. والعدل هو العلاقة الصحيحة بين الطبقات التي تقوم كل منها بوظيفة ضرورية حسب طاقاتها الطبيعية.
كان من السهل التوفيق بين بعض هذه المبادئ وتعاليم الإسلام، بينما لم يكن هذا التوفيق سهلًا بالنسبة للبعض الآخر. فالإنسان الكامل الذي يجب أن يتولى الحكم إنما هو، في نظر الإغريق، الفيلسوف، أي ذلك الإنسان الذي تحققت طاقة المعرفة لديه تحققًا تامًا. أما في نظر المسلمين، فمؤسس الجماعة وحاكمها الأول ومثالها الإنساني إنما هو النبي، ذلك الإنسان الذي اصطفاه الله لإبلاغ أوامره. والشريعة، في نظر الإسلام، أساس المجتمع، وهي إرادة الله. أما في نظر أفلاطون، فالحاكم الكامل لا تقيده إلا الحقيقة، الحقيقة التي يطلع عليها بعقله؛ أما الشريعة فليست ضرورية إلا للمحكومين. وهي، حتى في هذه الحالة، ليست إلا من نتاج عقل المشترع، بينما هي في نظر أرسطو من نتاج الحكمة الإنسانية، تلك الحكمة المتحررة من الشهوات تحررًا يعجز أي إنسان عن بلوغه بمفرده، والمستهدفة خلق ملكات فاضلة في المواطن. فمن هو إذن أفضل الناس، وحاكم أفضل مجتمع؟ النبي أم الفيلسوف؟ وهل الأمة الإسلامية أفضل المجتمعات؟ أو بتعبير أقوى: هل النبوة واجبة، وهل الشريعة المنزلة ضرورية لتحقيق طبيعة الإنسان؟ هذه أسئلة كانت تفرض نفسها على الفلاسفة المسلمين، الذين لم يكونوا فلاسفة فحسب، بل مسلمين أيضًا. نعم، كانوا قد ارتضوا بأفلاطون وأرسطو «معلمين الذين يعلمون»؛ إلا أنهم كانوا أيضًا يؤمنون، بمعنى من المعاني، بأن محمدًا نبي وبأن الشريعة إرادة الله. فلم يكن بإمكانهم حل هذه المعضلة إلا باستنباط تفسير للنبوة وللشريعة يرتاح إليه العقل الفلسفي. وهذا ما حاوله الفارابي (٨٧٠ - ٩٥٠) في كتابه «آراء أهل المدينة