يقولون إن واجب الطاعة يبقى قائمًا ما دام الحاكم لا يأمر بما يخالف الشريعة. لكننا سنرى أن التفكير قد مال، في العصور المتأخرة، إلى تحويل الطاعة إلى واجب مطلق، لا بل إلى اعتبار الحاكم الظالم خيرًا من انعدامه أصلًا. ولم يبق بين المتأخرين سوى أقلية تجيز الثورة. بيد أن الأكثرية نفسها، التي رأت أن تكون للطاعة عامة، لم تذهب إلى حد الإصرار بأن تكون بلا تحفظ. فقال الغزالي (١٠٥٨ - ١١١١)، بعد شرح واجب الطاعة للحاكم الظالم، بأن على المطيع أن لا يؤيد الظلم بطاعته. فالمسلم الورع، في نظره، هو من يبتعد عن بلاط الحاكم الظالم، ويتجنب عشرته، ويصده، إما بالكلام إذا استطاعه بأمان، وإما بالصمت إذا خشي أن يشجع الكلام على الفتنة (٤).
لقد انطوت النظرة الإسلامية إلى المجتمع الحق على سلسلة من المفارقات المترابطة. أولها وأشدها عمقًا أن المسلمين جاؤوا، حين كان العالم يعبد الأوثان أو يشرك في عبادة الله (الشرك)، يعلنون أن لا إله إلا الله وأنهم لا يعبدون سواه (التوحيد)؛ وثانيها، وهذا مرتبط بالأول، يتعلق بتنظيم المجتمع: فبينما كان المجتمع الجاهل للإسلام خاضعًا لحكم العادة التي تعارف عليها الناس لأغراضهم الخاصة وعن جهل لوصايا الله (الجاهلية تعني جهل حقائق الدين)، جاء المجتمع الإسلامي يخضع لحكم الشريعة، كما خضعت لها أيضًا المجتمعات التي أسسها الأنبياء الأقدمون بمقدار ما بقيت كتبهم سالمة من التحريف؛ وثالثها أنه، بينما كانت الصلة بين البشر في مجتمعات ما قبل الإسلام من نوع الروابط الطبيعية القائمة على العرق او الشبيهة بما يقوم على العرق، كتضامن القبيلة أو العشيرة (العصبية)، كان ما يجمع بين المسلمين في الأمة صلة روحية هي الطاعة المشتركة للشريعة، والقبول بالحقوق والواجبات المتبادلة المعينة فيها، والتعاضد والتناصح في تنفيذها. ورابعها أنه، بينما كانت السلطة السياسية في مجتمعات ما قبل الإسلام تستند