وقد تلاه قوله:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [التوبة: ٨٠]، فبيَّن الصارف عن المغفرة لهم؟
قلت: لم يَخفَ عليه ذلك، ولكنه فعل ما فعل، وقال ما قال، إظهارًا لغاية رحمته، ورأفته على من بُعث إليهم، وهو كقول إبراهيم عليه السلام:{وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[إبراهيم: ٣٦]، وفي إظهار النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الرأفة المذكورة لُطف، بأمته، وباعث على رحمة بعضهم بعضًا. انتهى.
وقد تعقّبه ابن المنيّر وغيره، وقالوا: لا يجوز نسبة ما قاله إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأن اللَّه أخبر أنه لا يغفر للكفار، وإذا كان اللَّه لا يغفر لهم، فطلب المغفرة لهم مستحيل، وطلب المستحيل لا يقع من النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-.
ومنهم من قال: إن النهي عن الاستغفار لمن مات مشركًا لا يستلزم النهي عن الاستغفار لمن مات مظهرًا للإسلام؛ لاحتمال أن يكون معتقده صحيحًا.
وهذا جواب جيّد، وقد رجّح الحافظ في تفسير "سورة القصص" أن نزول الآية، كان متراخيًا عن قصة أبي طالب جدًّا، وأن الذي نزل في قصته:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الآية [القصص: ٥٦].
قال: إلا أن في بقية هذه الآية من التصريح بأنهم كفروا باللَّه ورسوله ما يدلّ على أن نزول ذلك وقع متراخيًا عن القصّة، ولعلّ الذي نزل أوّلًا، وتمسّك به النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قوله تعالى:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}[التوبة: ٨٠] إلى هنا خاصّة، ولذلك اقتصر في جواب عمر على التخيير، وعلى ذِكر السبعين، فلما وقعت القصّة المذكورة كشف اللَّه عنهم الغطاء، وفَضَحهم على رؤوس الملأ، ونادى عليهم بأنهم كفروا باللَّه، ورسوله.
قال: وإذا تأمل المنصف وجد الحامل لمن ردّ الحديث، أو تعسّف في التأويل ظَنُّهُ بأن قوله:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} نزل مع قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} أي: نزلت الآية كاملة؛ لأنه لو فُرض نزولها كاملة لاقترن بالنهي العلة، وهي صريحة في أن قليل الاستغفار، وكثيره لا يُجدي، وإلا فإذا فُرض ما حرّرته أن هذا القَدْر نزل متراخيًا عن صدر الآية ارتفع الإشكال، وإذا كان الأمر كذلك، فحجة المتمسّك من القصّة بمفهوم العدد صحيح، وكون