بنزول الملائكة بالعقاب الذي يَستأصل شأفتهم، كما جَرَى لمن مَضَى من الأمم قبلهم، أو يأتيهم عذاب الآخرة بوجود بعض قوارعها، فحينئذ تفوت تلك الفُرْصة السابقة، فلا ينفعهم شيءٌ، مما كان ينفعهم من قبلُ من الإيمان، وكذا العمل الصالح مع الإيمان، فكأنه قيل: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها، ولا كسبها العمل الصالح في إيمانها حينئذ، إذا لم تكن آمنت من قبلُ أو كسبت في إيمانها خيرا من قبلُ، ففي الآية لَفّ، لكن حُذفت إحدى القرينتين بإعانة النشر.
ونظيرُهُ قوله تعالى:{وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا}[النساء: ١٧٢]، قال: فهذا الذي عناه ابن المُنَيِّر بقوله: إن هذا الكلام في البلاغة يقال له: اللَفّ، والمعنى: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا، لم تكن مؤمنة من قبل ذلك إيمانُها من بعد ذلك، ولا ينفع نفسًا كانت مؤمنةً، لكن لم تعمل في إيمانها عملًا صالحًا قبل ذلك ما تعمله من العمل الصالح بعد ذلك، قال: وبهذا التقرير يَظْهَر مذهب أهل السنة، فلا ينفع بعد ظهور الآية اكتسابُ الخير؛ أي: لإغلاق باب التوبة، ورفع الصّحُف والحفظة، وإن كان ما سَبَقَ قبل ظهور الآية من الإيمان ينفع صاحبه في الجملة.
ثم قال الطيبيّ: وقد ظَفِرتُ بفضل الله بعد هذا التقرير على آية أخرى تُشبه هذه الآية، وتُناسب هذا التقرير معنىً ولفظًا من غير إفراط ولا تفريط، وهي قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} الآية [الأعراف: ٥٢ - ٥٣]، فإنه يظهر منه أن الإيمان المجرد قبل كشف قوارع الساعة نافع، وأن الإيمان المقارن بالعمل الصالح أنفع، وأما بعد حصولها فلا ينفع شيء أصلًا والله تعالى أعلم. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله مُلَخّصًا (١)، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.