للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث / الرقم المسلسل:

وهذا معنى قولهم: "ما قلنا الذي قلنا إلا الضِّنَّ بك"، هو بكسر الضاد؛ أي: شُحًّا بك أن تفارقنا، ويختصّ بك غيرنا، وكان بكاؤهم فرحًا بما قال لهم، وحياءً مما خافوا أن يكون بلغه عنهم مما يُستحيا منه. انتهى (١).

وقال القرطبيّ - رحمه الله -: معنى هذه الجملة أنهم رأوا رأفة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بأهل مكة، وكفّ القتل عنهم، فظنّوا أنَّه يرجع إلى سكنى مكة، والمقام فيها دائمًا، ويرحل عنهم، ويهجر المدينة، فشقّ ذلك عليهم، وأوحى الله تعالى إليه - صلى الله عليه وسلم -، فأعلمهم بذلك، فقال لهم - صلى الله عليه وسلم -: قلتم: كذا وكذا، قالوا: نعم قد قلنا هذا، فهذه معجزة من معجزات النبوة، فقال: "كلا إني عبد الله ورسوله". معنى "كَلَّا" هنا حقًّا، ولها معنيان: أحدهما: حقًّا، والآخر النفي. انتهى.

(فَأَقْبَلُوا) بقطع الهمزة، فعل ماض من الإقبال؛ أي: فلما قال - صلى الله عليه وسلم - لهم هذا الكلام توجّهوا (إِلَيْهِ) - صلى الله عليه وسلم - حال كونهم (يَبْكُونَ) اعتذارًا على ما صدر منهم بظنّ خاطئ، وفي رواية النسائيّ في "الكبرى": "قال أبو هريرة: فرأيت الشيوخ يبكون، حتى بَلّ الدموع لِحَاهم، ثمَّ قالوا: معذرةً إلى الله، ورسوله، والله ما قلنا الذي قلنا إلا ضِنًّا بالله، وبرسوله، قال: "فإن الله قد صدّقكم، ورسوله، وقَبِلَ قولكم" (٢)، وفي رواية أبي يعلى: "قالوا: يا رسول الله، ما قلنا ذلك إلا مخافةَ أن تفارقنا، قال: أنتم صادقون عند الله، وعند رسوله، فوالله ما منهم أحدٌ إلا بَلّ نحره بدموع من عينه" (٣).

(وَيَقُولُونَ: وَاللهِ مَا قُلْنَا الَّذِي قُلْنَاه)؛ أي قولهم: أما الرجل فأدركته رغبة. . . إلخ، (إِلَّا الضِّنَّ)؛ أي: البخل والشحّ، يقال: ضَنَّ بالشيء يَضَنُّ، من باب تَعِبَ، ضِنًّا، وضِنَّةً بالكسر، وضَنَانَةً بالفتح: بَخِلَ، فهو ضَنِينٌ، ومن باب ضَرَبَ لُغةٌ، قاله الفيّوميّ - رحمه الله - (٤).

فقوله: "الضِّنَّ" منصوب على أنَّه مفعول لأجله، وفي الرواية الآتية: "إلا ضِنًّا بالله ورسوله" بالتنكير، وهو الأكثر في الاستعمال، فإن المفعول لأجله إذا كان بـ"أل" فالغالب فيه جرّه بحرف الجرّ، نحو: ضربته للتأديب، ويقلّ فيه


(١) "شرح النوويّ" ١٢/ ١٢٩.
(٢) "السنن الكبرى" للنسائيّ ٦/ ٣٨٢.
(٣) "مسند أبي يعلى" ١١/ ٥٢٤.
(٤) "المصباح المنير" ٢/ ٣٦٥.