للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

بما أمرهم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في الحديث بذلك، وأن يقولوا {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}، وهذه أقوالٌ، وأعمالٌ للسان والقلب، ثم نُسخ ذلك عنهم برفع الحرج والمؤاخذة. انتهى (١).

وقال أبو العباس القرطبيّ: "ما" في قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} الآية على عمومها، فتتناول كلّ ما يقع في نفس الإنسان من الخواطر، ما أُطيق دفعه منها، وما لا يُطاق، ولذلك أشفقت الصحابة - رضي الله عنهم - من محاسبتهم على جميع ذلك، ومؤاخذتهم به، فقالوا للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -: كُلِّفنا ما نُطيق، من الصلاة، والصيام، وهذه الآية لا نُطيقها، ففيه دليلٌ على أن موضوع "ما" للعموم، وأنه معمولٌ به فيما طريقه الاعتقاد، كما هو معمول به فيما طريقه العمل، وأنه لا يجب التوقّف فيه إلى البحث عن المخصّص، بل يُبادر إلى استغراق الاعتقاد فيه، وإن جاز التخصيص، وهذه المسائل اختُلف فيها، كما بيّنّاه في "الأصول".

ولَمّا سمع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك القول منهم أجابهم بأن قال: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟، بل قولوا: سمعنا، وأطعنا"، فأقرّهم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - على ما فهموه، وبيّن لهم أن لله تعالى أن يكلّف عباده بما يُطيقون، وبما لا يُطيقون، ونهاهم عن أن يقع لهم شيء مما وقع لضُلّال أهل الكتاب من المخالفة، وأمرهم بالسمع والطاعة، والتسليم لأمر الله تعالى على ما فهِمُوه، فسلّم القوم لذلك، وأذعنوا، ووطّنوا أنفسهم على أنهم كُلّفوا في الآية بما لا يطيقونه، واعتقدوا ذلك، فقد عملوا بمقتضى ذلك العموم، وثَبَتَ ووَرَدَ، فإن قُدِّر رافع لشيء منه، فذلك الرفع نسخٌ، لا تخصيصٌ، وعلى هذا فقول الصحابيّ: "فلما فعلوا نسخها الله" على حقيقة النسخ، لا على جهة التخصيص؛ خلافًا لمن لم يظهر له ما ذكرناه، وهم كثير من المتكلّمين على هذا الحديث، ممن رأى أن ذلك من باب التخصيص، لا من باب النسخ، وتأوّلوا قول الصحابيّ: إنه نسخٌ على أنه أراد بالنسخ التخصيص، وقال: إنهم كانوا لا يُفرّقون بين النسخ والتخصيص، وقد كنت


(١) "إكمال المعلم" ١/ ٥١٤ - ٥١٥.