قال السمهوديّ: والموجود الآن من الحمى بالمدينة ليس حمى الوباء، بل رحمة ربنا، ودعوة نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- للتكفير، قال: وفي الحديث: "أصح المدينة ما بين حَرّة بني قريظة والعريض"، وهو يؤذن ببقاء شيء منها بها، وأن الذي نُقِل عنها أصلًا ورأسًا سلطانها، وشدتها، ووباؤها، وكثرتها بحيث لا يُعَدّ الباقي بالنسبة إليه شيئًا.
قال: ويَحْتَمِل أنها رُفعت بالكلية، ثم أعيدت خفيفةً؛ لئلا يفوت ثوابها، كما أشار إليه الحافظ، ويدل له ما روى أحمد بإسناد صحيح، وأبو يعلى، وابن حبان في "صحيحه"، والطبرانيّ عن جابر:
استأذنت الحمى على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال:"من هذه؟ " قالت: أُمُّ مِلْدَم، قال: فأمر بها إلى أهل قباء، فلَقُوا ما لا يعلم إلا اللَّه، فأتوه، فَشَكَوا ذلك إليه، فقال:"ما شئتم؟ إن شئتم دعوت اللَّه ليكشفها عنكم، وإن شئتم تكون لكم طهورًا"، قالوا: أوَ تفعل؟ قال:"نعم"، قالوا: فدعها. انتهى.
قال الحافظ: وقد استَشْكَل بعض الناس الدعاء برفع الوباء؛ لأنه يتضمن الدعاء برفع الموت، والموت حتم مَقْضِيّ، فيكون ذلك عَبَثًا.
وأجيب بأن ذلك لا ينافي التعبد بالدعاء؛ لأنه قد يكون من جملة الأسباب في طول العمر، أو رفع المرض، وقد تواترت الأحاديث بالاستعاذة من الجنون، والجذام، وسيئ الأسقام، ومنكرات الأخلاق، والأهواء، والأدواء، فمن ينكر التداوي بالدعاء يلزمه أن ينكر التداوي بالعقاقير، ولم يقل بذلك إلا شذوذ، والأحاديث الصحيحة تردّ عليهم، وفي الالتجاء إلى الدعاء مزيد فائدة، ليست في التداوي بغيره؛ لما فيه من الخضوع والتذلل للربّ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، بل منع الدعاء من جنس ترك الأعمال الصالحة؛ اتكالا على ما قُدِّر، فيلزم ترك العمل جملةً، وردّ البلاء بالدعاء، كردّ السهم بالتُّرْس، وليس من شرط الإيمان بالقدر أن لا يتترس من رمي السهم، واللَّه أعلم. انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة -رضي اللَّه عنها- هذا متّفقٌ عليه.