من هذه الروافد الخصبة تكونت ثقافته ونمت معارفه، وبارك الله في أيامه فجعل أفئدة من الناس تهوي إليه تفيد وتستفيد، وكانت الرسائل ترد عليه من كل رجا تصل إليه الكلمة العربية، وأصبح مكتبه وبيته مثابة لكل طالب علم. وكنت أرى الناس حوله من مختلف الأسنان وشتى المذاهب وكلهم دان منه، قريب إليه، فأتمثل:
تمل الندامى ما عداني فإنني ... بكل الذي يهوى نديميَ مولع
فقد كانت كلماته حبيبة إلى كل قلب، خفيفة على كل سمع، يمزج الفائدة العلمية بالنكتة العذبة، مع نقاء طبع وصفاء روح، فلم يكن رحمه الله يصبر على خصومة أو يطيل جفاء، فإذا بدرت منه البادرة فهو سريع الأوبة مزيل الجفوة. وظل رحمه الله يعيش أجمل وفاء للناس، حتى مات في لحظة وفاء، حين رأى أم ولده ورفيقة عمره تصاب بشلل مفاجئ، فاجتاحته المصيبة، ولم يعش بعدها سوى يوم واحد، ليتركنا في يوم حزين، وتطوى صفحة مضيئة من صفحات النبوغ والمعرفة لفتى نحيل دخل دار الكتب عام ١٩٢٩ عاملًا يصفَّف الحروف في المطبعة، وقبل وفاته بأربعة أشهر ذهب يحاضر في معاهد إيطاليا عن المخطوطات العربية، وبين هذا وذاك جهد دائب وعلم نافع.
اللَّهُمَّ إنا نسألك أن تتغمَّد ذنبه، وأن تمهد عذره، وأن تنير قبره، وأن تجعله مع الذين أنعمت عليهم من النبيَّين والصدَّيقين والشُّهداء والصَّالحين وحسن أولئك رفيقاً.