للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث / الرقم المسلسل:

من الأوربيين من يفهمه، بل كان بالنسبة لزمانه في أوربا لغزاً من الألغاز. لقد كان فريدريش دائم البحث وراء أصدقاء يفهمونه، أصدقاء في مستواه العقلي والعلمي، لذلك أرسل أسئلته إلى يافا ليتعرف على العرب ويتبادل معهم الأفكار العلمية والأبحاث الهامة، ويجد فيهم الأصدقاء الذين يقدرونه وينقذونه من الوحدة والعزلة. كان القيصر يرجو من وراء هذه المراسلات أن يحظى بتقدير العرب وصداقتهم. كان حريصا على أن يخرج من هذا العالم الذي ولد فيه وشاءت الأقدار أن تجعله أوربيا، وكانت هذه التبعية الأوربية تؤلمه وتؤذيه. إن القيصر كان يشعر في أواخر أيامه وكأنه الغريب الذي يحن إلى العودة إلى وطنه الأصلي. إن ضربات الغدر القاسية التي كانت توجه إليه ويواجهها في أوربا لم تؤله إيلام البعد الروحي والعلمي بينه وبين معاونيه من رجال الدولة، حتى إنه قال: أريد أن أبقى في الشرق إلى الأبد!

ومن الوثائق التاريخية المؤثرة حقاً هذه الرسالة التي وجهها الإمبراطور في العربية إلى صديقه فخر الدين بعد أن افترقا وقد استهلها بالبسملة.

ولعل الشيء الذي باعد بين فريدريش وعصره هو هذا الوحي العقلي الذي كان يتلقاه بين الحين والآخر من الشرق وطنه الروحي، وهذا التراث العربي هو الذي ميزه عن سائر معاصريه، لذلك كان فريدريش يحاول دائماً الاتصال بهؤلاء الأنداد العظام. لقد استقبل البعثة العربية التي قدمت له كهدية مرصداً ذهبياً وقبة للأجرام السماوية متحركة استقبالاً حاراً جداً لا للهدية فقط، التي أدخلت إلى نفسه كثيراً من الفرح والسرور وهو البحاثة الذي لا يمل التفكير والاطلاع، بل لملاقاة علماء دمشق الذين طالما أسعده الاتصال بهم. وحرص فريدريش على إبقائهم في ضيافته فظلوا شهوراً وشهوراً، ثم سمح لهم بالعودة إلى بلادهم بعد أن احتفل بهم وكرمهم كثيراً وبالغ في الحفاوة بهم فأولم وليمة كبرى بمناسبة الهجرة النبوية الشريفة، وكانت هذه الوليمة شرقية أبهة وكرماً. ولم يسبق لأوروبا أن عرفت وليمة تدانيها عظمة وأبهة، لكن ماذا يصنع القيصر وليس في مقدوره استضافة أعضاء هذه البعثة مدة أطول.

<<  <   >  >>