وبذلك انفصلت الدول العربية لأول مرة بعد أربعة قرون وعام واحد (١٥١٧ - ١٩١٨) عن تركيا ولكنها لم تنفصل عنها في الحقيقة الا سياسيا أما فكريا فقد ظلت مرتبطة بها متطلعة اليها. وقد استغل الاستعمار هذه الرابطة استغلالا بعيد المدى بعد تغريب "تركيا الكمالية".
***
ومنذ اليوم الأول لهذا التقسيم الذي فرضه الاحتلال العسكرى بدأت حملة الغزو الثقافي التي قصد بها الاستعمار إلى تركيز سلطانه على نحو عقلى وعاطفى يتصل بالنفس العربية ويحول مفاهيمها ومعالمها وتيارات فكرها على النحو الذي يحقق له البقاء وقد ركز الاستعمار في غزوه الثقافي على:
(١) خاق جوا من عدم الثقة بشخصية المواطن وتشكيكه في جميع عقائده وقيمه وتراثه وتاريخه على النحو الذي يجعله يعتقد بأن وطنه دائما كان نهبا مقسما لكل الأقوياء وتحويل هذه الأفكار إلى عقائد بتعليمها في المدارس ونشرها في الصحف والكتب.
(٢) اقامة فواصل طبيعية بين كل قطر واقامة معالم قومية خاصة به تنبع من تاريخه البعيد وتسبق الروابط الإسلامية العربية التي بدأت فيما بعد ظهور الإسلام وخلق جامعات متعددة ودعوات متبانية لخلق البابلة الفكرية التي لا تمكن من قيام فكرة واحدة.
) ٣) رسم صورة باهرة للغرب، جبارة لاوربا، رهيبة للاستعمار، مخيفة للاحتلال وسطوته وجبروته، ومضى إلى تلقين معنى الثقة بهذا الحلف القوى، والايمان بحضارته والتيقين من أن الاندماج فيها هو وحده السبيل لتحقيق الحرية والاستقلال والوصول إلى النضوج والقدرة على حمل مسؤلية الحكم.
) ٤) سيطر الاستعمار على الحكام والأمراء والاعيان وأسماهم "أصحاب المصالح الحقيقية" وأعانهم على التوسع في التملك ليتخذ منهم ركائز يسيطر بها على العامة واخضاع الوزراء والحكام لنصائح مندوب الدولة المغتصبة. وفرض المستشارين على الوزارات وجعل أوامرهم نافذة.
) ٥) سيطر على الحياة الاقتصادية بواسطة أعوانه من الاجانب، وخفض أسعار المحاصيل الرئيسية للبلاد وبيعها بأبخس الاثمان والحيلولة دون تصنيع البلاد أو انتفاعها بالمخترعات الحديثة وبقائها بدائية. والحيلولة دون استخدام الوطنيين في هذه الاعمال وقد بلغت أرباح هذه الشركات أكثر من ميزانيات الدول نفسها.
(٦) ادخلوا إلى البلاد المحتلة الوفا من المستوطنين الذين استطاعوا بسلطان الاستعمار الاستيلاء على آلاف الافدنة الجيدة والقضاء على الصناعات الوطنية والسيطرة على مالية الدولة ووضعها تحت وصايته-أى الاستعمار- بفضل سلطان الامتيازات الاجنبية ونفوذ المحاكم المختلطة.
(٧) القضاء على روح المقاومة بشراء الذمم بالمال والمنصب والمرأة وخلق روح "النفعية" وقتل روح "المثالية". وخلق نزعة الانانية بدلا من نزعة الجماعية وتحويل الوطنية إلى سياسة. واثارة الطوائف بعضها على البعض الآخر وخلق حياة نيابية وأحزاب تتصارع.
(٨) الغاء الجيش الوطنى للأمة المحتلة وفرض جيش الاحتلال في ميادينه وايقاف الأمراء وأولياء النعم تحت أعلامه.
(٩) فتح أبواب السجون والمنافى لكل مجاهد أو مفكر صاحب رأى حر يحاول أن يرفع رأسه أو يقاوم واصطناع أساليب القتل في الظلام.
(١٠) تحويل الصحافة إلى موالاة الاحتلال.
ومصادرة الصحف ذات الطابع الوطنى المعارض للاحتلال وذلك لتكوين رأى يؤمن بعظمة المستعمر ويجرى وراء
(١١) الغاء مجانية التعليم وتدريس العلوم بلغة المحتل، وقصر التعلم على طبقة خاصة واحلال المدرسين الأجانب محل الوطنيين ووضع برامج تهدف إلى تحطيم معنويات الأمة وتصويرها بصورة الامة المستعبدة وتدريس تاريخ الامة المحتلة على نحو تعظيم واكبار واستبعاد التاريخ القومى وحجب كل معانى عظمة الامة من لغة وتاريخ وبطولات وامجاد. واثارة جو من الشكوك والريب حول القيم الروحية والوطنية ومحاولة اقناع الامة المحتلة بأن الاحتلال عمل مدنى وان الأوربيين هم سادة