لم تكن فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية (١٩١٨ - ١٩٣٩) الا معركة كبرى تفرعت منها معارك قوامها الغزو الثقافي من ناحية الاستعمار في صورة التحدى والمقاومة ومن ناحية الفكر العربي الإسلامي في صورة رد الفعل وقد امتدت هذه المعركة في ميادين متعددة:
السياسة، الدين، المجتمع، التعليم، اللغة العربية، الصجافة.
ذلك أن الاستعمار في سبيل تثبيت دعائم سلطانه كان يهدف إلى تغيير مفاهيم الفكر العربي الإسلامي في كل هذه الميادين، واحلال مفاهيم جديدة، غير مرتبطة أدنى ارتباط بالماضى ولا بالشخصية العربية، ولا جارية على سنة التطور الطبيعي.
وانما كان يهدف في الأساس إلى خلق جو من البلبلة والاضطراب والتمزق، وخلق كتل فكرية متصارعة ومدارس متعددة، وثنائية في مختلف الميادين الفكرية ودعوات تجرى إلى الوراء فتتعلق بالماضى المدفون محاولة ايقاظه واتخاذه أساسا لحضارة أو حياة، والعمل على تمزيق الجبهة الموحدة واثارة الخلاف بين الأديان، واثارة الصراع بين مذاهب الأديان وبعث خلافات قبلية وطائفية وجنسية. وكان يركز على "الدين" كأساس للثقافة العربية بغية التشكيك فيه، ويعمل على تشويه "التاريخ" باعتباره التراث الذي يربطنا بأمجادنا وبطولاتنا حتى ننظر له نظرة الاستهانة. ويرمى إلى القضاء على "اللغة" بتقوية اللهجات أو اللغة العامية المحلية وهو بذلك يرمى إلى القضاء على أساس الوحدة التي تربط الأمة العربية من ناحية الدين والتاريخ واللغة. وكان "التعليم" أداة من أدوات هذا الغزو الثقافي فقد فرض معاهد الارساليات في مختلف أنحاء الوطن العربي وبذلك خلق ثنائية التعليم وعن طريق هذه المعاهد والجامعات بث آرائه المسمومة في اللغة والدين والتاريخ والحضارة.
وعن طريق" السياسة" خلق أسلوب المنفعة للقضاء على أسلوب الوطنية الخالصة، وأحل الحزبية محل الوحدة، وأقام الصراع بين الأحزاب المختلفة باسم النظام النيابى الغربي الحديث وذلك ليصرف النظر عن الهدف الأول وهو تحرير الوطن، وحتى لا تقوم جبهة موحدة في الوطن لمقاومته الا اذا شاء هو أن يخلق هذه الجبهة لتوقيع اتفاقية يحرض على أن يضم اليها كل العناصر ليكون كلا منها ملزما بتنفيذها اذا ما تولى الحكم.
وعن طريق "الصحافة" قامت حركة التغريب، فقد ظهرت صحف متينة البناء رأسية الأساس مستمرة لا تغلق ولا تعطل، وكانت هذه الصحف في رعايته وتمويله ويظهر بعضها هدفه صريحا ويخفيه الآخر، والذى يخفيه أشد خطرا من الذي يظهره، قد أفسحت هذه الصحف صدرها لمختلف الآراء والنظريات والمذاهب من رجعية وتقدمية وشيوعية ورأسمالية ومنحرفة ودينية وملحدة واباحية ومتحررة، وبذلك خلقت جوا عاصفا من البلبلة، يثير العقل ويقضى على روح الوحدة ويدفع دفعا إلى التفكك والتجزئة والانحلال ويخلق عشرات المعسكرات والمذاهب والدعوات. وبذلك لا يستطيع الوطن أن يندفع في طريق موحد، ويصعب حمايته من التيارات الغربية التي تعصف به، أما الصحف الوطنية الصادقة فقد كانت تعيش في مهاب الأعاصير تصدر ثم تنذر وتحاكم وتغلق، ولا تجد من المواد ما يدفعها إلى الاستمرار أو القوة أو التبريز في الميدان كغيرها فتظل لا تصل الا إلى قلة من القراء. ويظل للصحف الأخرى سيطرتها عن طريق مظهرها القوى ودوام صدورها واتساع انتشارها.
وعن طريق الصحافة أذيعت آراء التغريب في الدين واللغة والتاريخ وحمت الصحافة المستعمر وعملائه وأفسحت صدورها لهم ودافعت عنهم، ولكن عن طريق الصحافة أيضا برزت روح المقاومة والنضال والدعوة إلى الحرية والوحدة والقومية العربية وحماية مقدرات الأمة والدفاع عن كيانها وتاريخها وأمجادها.