وقوله تعالى: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ}.
قال القرطبي: (أي لا يخافون الانتقام. "ومن" في قوله {مِنْهُمْ} للتبعيض، لأن العهد إنما كان يجري مع أشرافهم ثم ينقضونه. والمعني بهم قُريظة والنضير، في قول مجاهد وغيره. نقضوا العهد فأعانوا مشركي مكة بالسلاح، ثم اعتذروا فقالوا: نسينا، فعاهدهم عليه السلام ثانية فنقضوا يوم الخندق).
قلت: والآية عامة في وصف كل من نقض العهد بعد توكيده، وخان المواثيق بعد عقدها، فهي تنطبق على اليهود، والأعراب من لصوص الصحراء الذين كانوا يمكرون ويخونون العهود مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك على المنافقين وأمثالهم في كل زمان.
وقوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}.
أي: فإذا ظفرت بهم في الحرب وظهرت عليهم فنكِّلْ بهم وأغلظ في إيلامهم، ليكونوا عبرة لمن سواهم من الأعداء، وإنذارًا لمن بعدهم من الخونة والعملاء.
قال ابن عباس: ({فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ}، يعني: نكِّل بهم من بعدهم).
أو قال: (نكِّل بهم من وراءهم).
وقال قتادة: (عظْ بهم من سواهم من الناس).
وقال السدي: (نكِّل بهم من خلفهم، مَنْ بعدهم من العدو، لعلهم يحذرون أن ينكثوا فتصنع بهم مثل ذلك).
وقال سعيد بن جبير: (أنذر بهم من خلفهم).
وقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}.
قال القاسمي: (بيان لأحكام المشرفين إلى نقض العهد، إثر بيان الناقضين له بالفعل. و"الخوف" مستعار للعلم. أي: وإما تعلمن من قوم من المعاهدين نقض عهد فيما سيأتي، بما لاح لك منهم من دلائل الغدر، ومخايل الشر {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ}، أي: فاطرح إليهم عهدهم {عَلَى سَوَاءٍ} أي على طريق مستوٍ قصدٍ، بأن تظهر لهم النقض، وتخبرهم إخبارًا مكشوفًا بأنك قد قطعت ما بينك وبينهم من الوصلة، ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد، كي لا يكون من قِبَلكَ شائبة خيانة أصلًا، وإن كانت في مقابلة خيانتهم) انتهى.