للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أخرج أبو داود بسند صحيح عن سليم بن عامر - رجل من حمير - قال: [كان بين معاوية، وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم، حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاء رجل على فرس أو بِرْذَوْن وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر، وفاء لا غدر، فنظروا فإذا عمرو بن عبسة. فأرسل إليه معاوية فسأله، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ كانَ بينه وبين قوم عَهْدٌ فلا يَشُدُّ عُقدَةً، ولا يَحُلُّها حتى ينقضِيَ أمَدُها أو يَنْبِذَ إليهم على سواء" فرجع معاوية] (١).

واتفق الشراح على أن هذا الحديث عام في جميع العقود بين المتحاربين. وهو بين المتعاملين من المسلمين أوثق وآكد.

وقد أفاد أبو السعود: أن قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} تعليل للأمر بالنبذ، إما باعتبار استلزامه النهي عن مناجزة القتال، لكونها خيانة، فيكون تحذيرًا له - صلى الله عليه وسلم - منها، وإما باعتبار استتباعه للقتال، فيكون حثًّا له - صلى الله عليه وسلم - على النبذ أولًا، وعلى قتالهم ثانيًا، كأنه قيل: وإما تعلمن من قوم خيانة فانبذ إليهم، ثم قاتلهم، إن الله لا يحب الخائنين، وهم من جملتهم، لما علمت من حالهم.

وقد فصّل ذلك شيخ المفسرين - الإمام ابن جرير بقوله -: ({فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ}، يقول: فناجزهم بالحرب، واعلمهم قبل حربك اياهم أنك قد نسخت العهد بينك وبينهم، بما كان منهم من ظهور أمار الغدر والخيانة منهم، حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم بأنك لهم محارب، فيأخذوا للحرب آلتها، وتبرأ من الغدر {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}، الغادرين بمن كان منه في أمان وعهد بينه وبين أن يغدر به فيحاربه، قبل إعلامه إياه أنه له حرب، وأنه قد فاسخه العقد).

وقوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ}.

أي: لا يظنن الذين كفروا وغدروا أنهم قد أفلتوا من الظفر بهم، فهم وإن فاتوا، فإنهم لا يفلتون من عقاب الله يوم القيامة، بل ربما أمكن منهم بالقتل والتشريد والخزي في الدنيا، ثم يَنْتَظِرُهُم انتقام الله الشديد منهم في الآخرة.


(١) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (٢٧٥٩) - باب في الإمام يكون بينه وبين العدو عهد فيسير إليه -، وانظر صحيح أبي داود (٢٣٩٧)، وأخرجه الترمذي (١٥٨٠)، والنسائي في "الكبرى" (٨٧٣٢)، وأخرجه أحمد في المسند (٤/ ١١١، ١١٣)، والبيهقي (٩/ ٢٣١)، وغيرهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>