ثم بعد عودنا من هذا السفر الطويل خلى سبيل العساكر، ولحقوا ببلادهم، ورفت كثير من الضباط فكنت ممن رفت. وسكنت فى بيت صغير بالأجرة مع أخ لى كنت تركته فى المدرسة عند السفر مع ابن أخ آخر ليتربيا فيها، فطردا منها بعد سفرى ولم يعطف عليهما أحد ممن كنت أساعدهم فى مدة نظارتى، ولم تحصل الشفقة عليهما إلا من سليمان باشا الفرنساوى، فإنه أدخلهما فى مكتب كان أنشأه بمصر العتيقة على نفقته وشملهما برأفته، ثم غرق ابن أخى فى البحر وبقى أخى إلى أن جئت فالتحق بى فكانت حالتى بعد سبع سنين مضت من عودى من بلاد أوروبا كحالتى عند عودى منها، وذهب ما رأيت من الأموال والمناصب والوظائف وجميع ما كسبت يدى.
ولم يبق بالخاطر غير ما فعل الناس معى من خير وشر، وما أكسبنى الزمان من صدماته وغرائب تقلباته، حتى حلا لى التخلى عن الحكومة وخدمتها، وغضضت طرفى عن التطلع للوظائف والمناصب، وعزمت على الرجوع إلى بلدى والإقامة بالريف، والاشتغال بالزرع والتعيش من جانبه، وترك الاشتغال بالقيل والقال، وقلت عوضنا الله خيرا فى نتائج الفكر وثمرات المعارف ولنفرض إنا ما فارقنا البلد ولا خرجنا منها.
وبينما أنا أتجهز للسفر إلى البلد على هذه النية، صدر أمر بأن جميع الضباط المرفوتين يحضرون بالقلعة للفرز فحضرنا، وكان المنوط بالفرز أدهم باشا وإسماعيل باشا الفريق وجملة من الأمراء، فكان أهم ما يعتنون به معرفة عمر الإنسان، وكانوا يعرفون السن بالنظر إلى السنّ، فهالنى هذا الأمر وثقل على ووددت أن لا أكون طلبت، فلما وصلنى الفرز عافانى من ذلك أدهم باشا السابق معرفته بى.
وكتبت فى المختارين للخدمة فتعطلت عن السفر، وبعد قليل تعينت معاونا بديوان الجهادية وأحيل علىّ النظر فى القضايا المتأخرة المتعلقة بالورش والجبخانات وغيرها من ملحقات الجهادية، وألحقوا بى كاتبا فاشتغلت بها زمنا وأتمنا جملة منها. وفى ذات يوم كان إسماعيل باشا الفريق ناظر الديوان إذ ذاك مشتغلا برسم بعض المناورات العسكرية فلم