للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم قال لى: خصوصا إنك قد اشتغلت بفن الهندسة الحربية، وقد بلغنى أن (جاليس بيك) يرغب أن تكون معه، وألح كثيرا فى طلبك ولم يجب إلى مرغوبه وأظن أن الأمر يؤول إلى إلحاقك به فلا تضجر واصبر فعاقبة الصبر خير، والآن لم يكن عندك إلا تلميذ واحد وعن قريب ألحق لك به غيره، فشكرناه على نصيحته وانصرفنا.

واشتغل كل منا بما نيط به، وفى تلك المدة تأهلت بكريمة معلمى فى الرسم بمدرسة أبى زعبل، وكان أبوها قد مات وصارت إلى حالة الفقر، فتزوجت بها لما كان لوالدها علىّ من حق التربية والمعروف، ثم حدثتنى نفسى أن أستأذن لزيارة أهلى بعد هذه الغيبة الطويلة فكلمت الناظر فى ذلك، فقال لي: إن من يسافر يقطع نصف ماهيته وأنت الآن محتاج إليها فالأحسن أن تصبر حتى أكلم سليمان باشا الفرنساوى ليأخذك معه فى مأمورية استكشاف البحيرة والسواحل، فإذا حصل ذلك يتم مرغوبك بسهولة، وقد حصل وأخذت المأمورية وسافرت معه.

ولما كنا بدمياط انفصلت عنه فى جهة من المأمورية وبعد أن سحت البحيرة وحررت جرنالها ورسمها ذهبت إلى بلدتنا برنبال، وكان أهلى قد رجعوا إليها قبل ذلك بمدة، فوجدت أن أبى قد سافر إلى مصر لزيارتى، ولم أجد فى المنزل إلا والدتى وبعض إخوتى، وكان دخولى عليهم ليلا فطرقت الباب فقيل من أنت؟ فقلت: ابنكم على مبارك، وكانت مدة مفارقتنى لأمى أربع عشرة سنة لم ترنى فيها ولا سمعت صوتى، فقامت مدهوشة إلى ما وراء الباب، وجعلت تنظر وتحد النظر، وكنت بقيافة العسكرية الفرنساوية، لا بسا سيفا وكسوة تشريف، وكرّرت السؤال حتى علمت صدقى ففتحت الباب وعانقتنى، ووقعت مغشيا عليها ثم أفاقت وجعلت تبكى وتضحك وتزغرت.

وجاء أهل البيت والأقارب والجيران وامتلأ المنزل ناسا، وبقينا كذلك إلى الصباح والناس بين ذاهب وآيب.

ثم رأيت والدتى فى حيرة فيما تصنعه لى من الإكرام، وتريد عمل وليمة وهى