ولعدم وجود كتب مطبوعة فى هذه الفنون وغيرها إذ ذاك كان التلامذة يكتبون الدروس عن المعلمين فى كراريس كل على قدر اجتهاده فى استيفاء ما يلقيه المعلمون، وكان المعلمون يومئذ يبذلون غاية مجهودهم فى التعليم، فكان يندر أن يستوفى تلميذ فى كراسه جميع ما يلقى إليه، خصوصا الأشكال والرسوم، ولذلك كان الأمر إذا تقادم أو خرجت التلامذة من المدارس يعسر عليهم استحضار ما تعلموه فكان يضيع منهم كثير مما تعلموه، وفى آخر مدة المهندسخانة كانوا يطبعون بمطبعة الحجر بعض كتب، فاستعانت بها التلامذة وحصل منها النفع، ثم تكاثر طبع الكتب شيئا فشيئا إلى الآن، فصارت تطبع الفنون بأشكالها ورسومها فسهل بذلك تناولها واستحضار ما فيها.
ثم فى سنة ستين عزم العزيز على إرسال أنجاله الكرام إلى مملكة فرانسا ليتعلموا بها، وصدر أمره بانتخاب جماعة من نجباء المدارس المتقدمين ليكونوا معهم، وحضر المرحوم سليمان باشا الفرنساوى إلى المهندسخانة فانتخب عدة من تلامذتها فكنت فيهم، وكان ناظرها يومئذ (لامبير بيك) فأراد أن يبقينى بالمهندسخانة لأكون معلما بها، فعرضت على سليمان باشا أنى أريد السفر مع المسافرين، وجعل الناظر يحتال على، وأحال علىّ الخوجات ليثبطونى عن السفر، وقالوا لى إن بقيت ههنا تأخذ الرتبة حالا، وتترتب لك الماهية، وإن سافرت تبقى تلميذا، وتفوتك المزية، ورأيت أن سفرى مع الأنجال مما يزيدنى شرفا ورفعة/واكتسابا للمعارف فصممت على السفر، مع أنى أعلم أن أهلى فقراء، ويعود عليهم النفع من الماهية وهم منتظرون لذلك، لكن رأيت الكثير الآجل خيرا من هذا القليل العاجل، فحصل ما أملته والحمد لله.
فسافرنا إلى تلك البلاد، وجعل مرتبى كل شهر مائتين وخمسين قرشا ماهية كفرقتى، فجعلت نصفها لأهلى تصرف لهم من مصر كل شهر، وكانت هذه سنتى معهم منذ دخلت المدارس، فأقمنا جميعا بباريس سنتين فى بيت واحد مختص بنا، ورتب لنا المعلمون لجميع الدروس، والضباط والناظر من جهادية الفرنساوية، لأن رسالتنا كانت عسكرية وكنا نتعلم التعليمات العسكرية كل يوم.