يوجب فراقهم، وتحلفنى أن أرجع عن تلك النية فوعدتها بالرجوع عن ذلك إرضاء لخاطرها فأطلقونى. وكانت لنا غنيمات صرت أرعاها وأبعدونى عن حرفة الكتابة التى ربما تكون سببا لفراقهم، فبقيت كذلك مدة حتى اطمأن خاطرهم، وظنوا أن فكرتى ذهبت عنى مع أنها لا تفارقنى وإنما كنت أخفيها، إلى أن انتهزت فرصة فى ليلة من الليالى فصبرت إلى أن ناموا جميعا وأخذت دواتى وأدواتى وخرجت من عندهم خائفا أترقب، وتوجهت تلقاء منية العز، وكان ذلك آخر عهدى بسكناى بين أبوىّ.
وكانت ليلة مقمرة فمشيت حتى أصبحت، فدخلت منية العز ضحى، ولم يرنى الناظر إلا وأنا مع الأطفال فى داخل المكتب، والتزمت أن لا أخرج منه ليلا ولا نهارا مخافة اختطافى، ثم حضر والدى وعمل طرق التحيل علىّ هو والناظر فلم ينجع ذلك فىّ ورجع بلا حاجته وجعل يتردد علىّ طمعا فى أخذى من المكتب، حتى جاءنا ناظر مكتب الخانقاه عصمت أفندى، لفرز نجباء التلاميذ إلى قصر العينى، فكنت ممن اختير لذلك، فحضر والدى واشتكى لعصمت أفندى فقال له: هذا ابنك أمامك وهو مخير، فخيرونى فاخترت المدارس، فعند ذلك بكى والدى كثيرا وأغرى علىّ جماعة من المعلمين وغيرهم ليستميلونى، فلم أصغ لهم، وكان ما قدر الله ولا راد لما قدره، فدخلت مدرسة قصر العينى فى سنة إحدى وخمسين ومائتين وألف، وأنا يومئذ فى سن المراهقة، وصرت فى فرقة برعى أفندى، فوجدت المدارس على خلاف ما كنت أظن بل بسبب تجدد أمرها كانت واجبات الوظائف مجهولة فيها والتربية والتعليمات غير معتنى بها، بل كان جل اعتنائهم بتعليم المشى العسكرى، فكان ذلك فى وقت الصبح والظهر، وبعد الأكل وفى أماكن النوم، وكان جميع المتكلمين على التلامذة يؤذونهم بالضرب وأنواع السب والإهانة من غير حساب ولا حرج، مع كثرة الأغراض والأعراض عن الاعتناء بشئونهم من مأكولات وخلافها وكانت مفروشاتهم حصر الحلفاء وأحرمة الصوف الغليظ من شغل بولاق، ومن كراهتى للطبيخ المرتب لنا جعلت إدامى الجبن والزيتون.
وكان برعى أفندى يراعينى بالنسبة لغيرى، وكان معى قليل من النقود جعلته أمانة تحت يده، فلما رأيت هذه الحالة ضقت ذرعا وظننت إنى جنيت على نفسى فى دخول